سليمان تقي الدين

لم تصمد كثيراً التهدئة السياسية التي فرضتها القمة السعودية السورية في لبنان . وقعت حادثة أمنية في منطقة برج أبي حيدر كانت لها دلالات خطرة . تطورت حادثة فردية إلى استنفار أمني واسع وردود فعل أظهرت الاستعداد النفسي الواسع للصدام والمناخ السياسي المهيّأ للفتنة . ارتفعت الأصوات المطالبة بمعالجة مسألة السلاح المنتشر في أحياء العاصمة وتشكلت لجنة وزارية لدراسة سبل المعالجة . في الخطاب السياسي صوبت بعض القوى على ما أسمته ldquo;استباحة العاصمة وأمن الناسrdquo; . لا أحد ينكر أن ظاهرة انتشار السلاح وتكرار أحداث استخدامه باتا مسألة حيوية مقلقة للمواطنين، وغير مبّررة على الصعيد السياسي . في مكان ما هذا السلاح يؤدي وظيفة السيطرة وكأنه جزء من التوازن السياسي .

صحيح أن السلاح موجود لدى جميع الأطراف بلا استثناء لكن ldquo;حزب اللهrdquo; هو الطرف الذي يملك طرفاً استثنائياً . تتوجس المقاومة من شعار نزع السلاح وتشكو التضخيم الإعلامي، لكنها في ذلك تتجاهل حجم المخاطر عليها من استدراجها إلى النزاعات الأمنية الداخلية التي تتحول سريعاً إلى نزاعات مذهبية . يستغل خصوم المقاومة هذه الأحداث ويوظفونها سياسياً دون أدنى شك، لكن المقاومة تكابر في عدم إجراء المراجعة السياسية لما يحصل في البلاد وفهم الظروف والمعطيات والأسباب التي تخلق أجواء الحذر من دورها وقوتها .

مما لا شك فيه أن البيئة اللبنانية معقّدة ومركبّة وتتفاعل فيها عوامل عدّة، وأن هناك شغلاً سياسياً مكشوفاً أصلاً لاستهداف الدور الكبير الذي لعبته المقاومة . لكن ذلك أدعى أن تسعى المقاومة إلى تذليل الصعوبات أمام احتضانها شعبياً ووطنياً خارج بيئتها وجمهورها المذهبي . عندما تحولت المقاومة منذ خمس سنوات إلى التأثير في توازنات النظام السياسي، وفرضت شروطها عليه أصبحت عاملاً من عوامل التركيبة الطائفية، وفقدت الكثير من صورتها مقاومة وطنية . بل إن جزءاً من مواجهة المقاومة من قبل خصومها كانت تتجه إلى استدارجها إلى النزاعات الداخلية تمهيداً لمحاصرتها سياسياً .

كان يمكن للمقاومة أن تتحول إلى مشروع تحرر وطني مع فائض القوة الذي امتلكته، لو أنها أنشأت جبهة وطنية ذات برنامج سياسي يجمع مكونات المجتمع اللبناني التعددي . لكنها أدارت نوعاً من التحالفات الفوقية التقليدية التي أسهمت في تعميق صورتها واحدة من قوى النظام القائم سياسياً واقتصادياً . ولقد تجلّى المشروع الداخلي أكثر ما تجلّى في ldquo;اتفاق الدوحةrdquo; وما أعقبه من إجراءات على صعيد تشكيل الحكومة والانتخابات النيابية . لم تستثمر المقاومة ثقلها السياسي خلف أي مطلب إصلاحي ورضخت لمطالب حليفها السياسي التقليدي ومصالحه في إقرار قانون انتخاب يجدد أزمة النظام ويحجب المشاركة الشعبية . يقال إن المقاومة تبحث عن حمايتها من خلال هذه التحالفات التقليدية، والتعاون مع رموز الطبقة السياسية لكي تستفيد من حيادهم، غير أن الأمور ذهبت في اتجاه المزيد من الانغلاق السياسي الطائفي والمذهبي الذي يتوجس بطبيعته من أية قوة طائفية أو مذهبية صاعدة . لا تضمن المقاومة صداقة أي جمهور طائفي غير جمهورها ولا توجد قوة متعددة الانتماءات الطائفية تشترك مع المقاومة في مشروعها السياسي . أما أن السلاح صار جزءاً من استراتيجية الدفاع عن لبنان فهذا أمر حقيقي ويصعب الطعن فيه، ولو تحوّل إلى جزء من منظومة أمن إقليمي ويرتبط مصيره بمصيرها . إلا أن الاعتراف بحاجاته إلى نوع من التغيير داخل النظام السياسي فقد صار حوله أكثر من حاجز .

إن معادلة ldquo;شعب وجيش ومقاومةrdquo; لصياغة الاستراتيجية الدفاعية هي معادلة سليمة . لكن الأسئلة تطرح حول دلالات ونتائج مشاركة الشعب خارج المنطقة الجنوبية الحدودية، ودلالات ونتائج دور الجيش .

في واقع الأمر المشكلة لا تتعلق بالمقاومة وسياستها وحدها، بل بباقي الأطراف وبغياب مشروع لبناء الدولة وتفعيل مؤسساتها . إن البنية الطائفية للبنان لا تتفق مع هيمنة مرجعية لمشروع سياسي يتموضع في بيئة طائفية . إن المسار الحالي من التوتر السياسي والأمني يتحول إلى مشروع فرز طائفي ومذهبي يطرح شعارات تتعلق بالأمن الذاتي . إن الانتقادات التي وجهت إلى الجيش على دوره في مواجهة الصدامات الأمنية تتكرر وكأنها دعوة ضمنية إلى أخذ الجمهور لأشكال من الأمن الذاتي . في شكل أو آخر يكرر لبنان سيناريوهات الحرب الأهلية في الربع الأخير من القرن الماضي .

يفترض بالقيادات التي عاشت تلك التجربة ونتائجها وأخطاءها أن تتدارك الانزلاق إلى المسار نفسه . عملياً ليس هناك من طرف يلعب مثل هذا الدور وكأن البلاد سائرة حتماً إلى اختبار الفتنة في أبشع صورها . لا يدرك أصحاب الشأن أنه كلما قويت شوكتهم المذهبية تقلص تأثيرهم الوطني . ارتفعت لهجة الخطاب الداعي إلى تسليح الجيش كأحد المخارج ليلعب دوره الوطني على الحدود . لكن الحقيقة أن البلاد تحتاج راهناً إلى تقوية كل المؤسسات الأمنية وتوحيدها في خطة وطنية مركزية، وخاصة للدفاع عن الأمن الداخلي . هناك مؤسسات أمنية باتت محسوبة على أطراف سياسية . تفقد المؤسسات فعاليتها الوطنية عندما تصبح تابعة لأطراف وليس إلى الدولة . لبنان اليوم مجموعة من الإقطاعات السياسية والأمنية والخدماتية، عبثاً يستطيع أن يواجه الضغوط الدولية المسلّطة عليه من دون تفاهمات عميقة تؤدي إلى تعزيز دور الدولة .

واقع الحال الآن أن المظلّة العربية التي تدعم الفرقاء اللبنانيين هي نفسها التي تضبط إيقاع نزاعاتهم . لكن الدور الإقليمي يستطيع أن يكبح القرارات الكبرى التي تتعلق بطموحات الأطراف على قلب الطاولة أو تغيير المعادلات . لكن هذا الدور الإقليمي لا يستطيع أن يضبط حراك الشارع الذي يراكم عناصر الانفجار والتفكك والانهيار . لقد صارت الإدارة الخارجية للشأن اللبناني أكثر من ضرورة وهي تتزايد كل يوم .

لكن على اللبنانيين أن لا يتخلّوا عن دورهم في تفعيل الحوار الوطني حول كل المواضيع الخلافية، لكي ينتهي بهم الأمر إلى تقوية عصب الدولة . أما إذا ظلّت النزاعات السياسية تحجب كل القضايا الجوهرية تحت وهم أن المتغيّرات الإقليمية قد تؤدي إلى توازنات جديدة تخدم مشاريع الغلبة من هنا أو هناك، فهو يراهن بالذات على تعميق المأزق الوطني . لكي تصير ممكنة معالجة المشكلات اللبنانية، يجب أن يستوعب جميع الأطراف أن هناك مشكلات، أما الاحتفاظ بوتيرة الخطاب الذي يلقي المسؤوليات على طرف من الأطراف للاستثمار السياسي فليس من مخرج محتمل .