محمد حسن علوان

عندما يفاجأ المعارضون ببناء مسجد في منطقة ذات حساسية تاريخية ينسون أن مساجد المسلمين موزعة في كل مكان، قرب المقابر والقواعد والكنائس والمواقع التاريخية، بل وفي قلب quot;البنتاجونquot; نفسهفي الوقت الذي لا يزال فيه مشروع مسجد (جراوند زيرو) في نيويورك يراوح مكانه بين المؤيدين والمعارضين، اكتمل في كندا بناء أول مسجد في تاريخ مدينة (إنوفيك) المتجمدة شمال غرب البلاد ليكون بذلك أقصى مساجد الكرة الأرضية شمالاً. ولأن ظروف تلك المدينة القصيّة أصعب من أن يكون بناء المسجد فيها ممكناً، فقد تم تشييده في مدينة (وينيبك) جنوب كندا، ومن ثم شحنه كما هو لمسافة تزيد عن أربعة آلاف كيلومتر براً ونهراً، ليتم إنزاله في مكانه المعدّ له، فيتمكن بذلك مسلمو إنوفيك أخيراً من العبادة والصلاة في مدينتهم التي تقع على حافة الأرض.
هذه قصة مسجدين في نفس القارة. الأول ما زالت قضيته تثير عاصفة كبيرة في الرأي العام الأمريكي. عاصفة (رملية) تحديداً لأن أهم صفات هذه العواصف أنها تسبب انعداماً في الرؤية. لاسيما وأن رياح السياسة والإعلام تثير مزيداً من الغبار والأتربة كل يوم. هكذا ضلّ سعي الكثير من الأمريكيين فلم يتمكنوا من قراءة وثيقة استقلالهم بشكل صحيح حتى يتذكروا أسس الحرية الدينية التي خطّها جيفرسون بيده، ولا من قراءة العالم من حولهم أيضاً بعد أحداث سبتمبر حتى يفرّقوا بين (الإسلام الدين) و(الإسلام الآيديولوجيا). وكذلك أيضاً ضلّ سعي كثير من المسلمين، فلم يفهموا تعقيدات السياسة الأمريكية وأسلوب صناعة القرار التشريعي، واعتنقوا كعادتهم (نظرية المؤامرة) و(الحرب على الإسلام)، وبقية القناعات التي تمنح المسلمين عزاءات معنوية أثناء كل التحديات الحضارية التي تواجههم كل يوم.
المسجد الثاني في المقابل مرّ كأن لم يسمع به أحد. برغم أنه يستحق أن يسجل في موسوعة جينيس لأكثر من سبب كأقصى المساجد شمالاً، وكأبعد عملية نقل لمسجد مكتمل من مكان البناء إلى موقعه المعدّ له. والمثير للإعجاب أيضاً أن كل هذا الجهد قد بُذل لخدمة المسلمين في إنوفيك رغم أن عددهم لا يتجاوز مئة شخص فقط، تشكل نسبتهم أقل من 3% من سكانها. لم تكن هناك عواصف (رملية) هذه المرة، بل عاصفة (ثلجية) غطت كل وسائل الإعلام وأدخلتها في بيات شتوي فلم تتفاعل مع مسجد إنوفيك باستثناء أخبار قليلة ومتفرقة بثتها بعض الجهات احتفالاً بهذا الحدث المميز. وبالتأكيد أن كندا لا تعاني من متلازمة أحداث سبتمبر مثل أمريكا مما يقلل من اهتمام وسائل الإعلام بقصة بناء مسجد، ولكن تزامن قصة المسجدين معاً يمنح أفقاً أوسع لتأمل أحوال المسلمين في شمال أمريكا بشكل عام.
كثيراً ما يتم الحكم على أحوال المسلمين بشكل شديد التعميم من خلال قضايا رمزية ونادرة، فيأتي الحكم ناقصاً وضيق الأفق. فيعتقد المتابع من خارج القارة أن المسلمين يواجهون مثل هذه المعارضة الشرسة كل مرة يبنون فيها مسجداً في أمريكا، أو أنهم ينعمون بهذه المعاملة الطيبة كل مرة يبنون مسجداً في كندا. ولنلاحظ كيف جعلت قضية مسجد (جراوند زيرو) أحوال المسلمين مدعاة للتشاؤم، بينما قصة مسجد (إنوفيك) تعكس صورة متفائلة ومريحة. والحقيقة أن أحوال المسلمين في بلدين كبيرين كأمريكا وكندا لا يمكن اختصارها في قضية أو اثنتين، والظروف الزمانية والمكانية التي يمر بها مشروع بناء كل مسجد على حدة أكثر تعقيداً من أن نختزلها في ثنائيات ساذجة مثل (الأشرار والأخيار)، أو أحكام جاهزة مثل الإسلاموفوبيا والعنصرية.
ولكن قصة هذين المسجدين تشهد على وقوع الكثيرين في هذا الاختزال وقصر النظر. فهناك أكثر من ألفي مسجدٍ تتوزع في أنحاء أمريكا وتُقام فيها الصلوات الخمس كل يوم وليلة، ولكنها كلها تسقط من الحسبان الجمعيّ (للطرفين) عندما يتعلق الأمر ببناء مسجد في مكانٍ متوتر كنيويورك. فعندما يواجه المسلمون صعوبات تشريعية في بناء المسجد ينسون كل المساجد القائمة حالياً، التي بُني أغلبها بأموال حكومية، ويتحدثون وكأنهم مظلومون منذ الأزل، وعندما يفاجأ المعارضون ببناء مسجد في منطقة ذات حساسية تاريخية ينسون أن مساجد المسلمين موزعة في كل مكان، قرب المقابر والقواعد والكنائس والمواقع التاريخية، بل وفي قلب (البنتاجون) نفسه.
أول مسجد وضع للناس في أمريكا كان قبل مئة سنة في الوقت نفسه الذي كانت فيه فرنسا تدكّ المساجد في الجزائر، بل إن أكبرها على الإطلاق تمّ بناؤه بعد أحداث سبتمبر عام 2005 في ميتشجان، وهو نفس العام الذي شهد عدداً كبيراً من العمليات الإرهابية التي نفّذها مسلمون في بالي ولندن وشرم الشيخ ومانيلا. ولكن كل تاريخ المساجد في أمريكا يصبح بلا جدوى في صياغة الرأي العام الإسلامي تجاه أمريكا وتسامحها بسبب قضية مسجد واحد، مثلما أن تاريخ المسلمين السلميّ في أمريكا منذ ثلاثة قرون لا يستطيع أن يشفع لهم أمام الرأي العام الأمريكي بسبب تهمة الإرهاب الحديثة.
هنا تكمن خطورة القضايا الرمزية كقضية (جراوند زيرو) في تضييق الأفق، وتحفيز الانحياز، وبتر السياق، وتشويه الصورة الكاملة. والأخطر أيضاً أن هذه القضايا يسهل على أصحاب الأجندات الآيديولوجية ركوبها متى شاؤوا. القصة تبدأ بأن يتقدم مسلمون ببناء مركز إسلامي قرب (جراوند زيرو)، ويثير الإعلام القضية بوصفه حدثاً مثيراً فقط، ثم يتوافد من بعد ذلك أصحاب الأجندات ليروا كيف يمكن استغلال القضية لصالحهم. اللوبي الصهيوني مثلاً استغلّ هذا الطلب ببناء المركز الإسلامي كوسيلة لإلصاق ما حدث في سبتمبر 2001 بالإسلام نفسه وليس بفئة متشددة وشاذة من المسلمين. واليمين المسيحي المتشدد استغلّه للتأكيد على أن حق المسلمين في بناء مساجدهم في أي مكان على الأراضي الأمريكية ليس حقاً مكتسباً بالمواطنة بل ممنوحٌ على سبيل التسامح بدليل أنه يمكن نزعه في أي وقت. والمتشددون من المسلمين أضافوا هذه الحادثة إلى تبريراتهم بحتميّة الصدام والعنف، ونبذ دعاوى حوار الأديان، وثني المسلمين الأمريكان من الاندماج في حراك إيجابي مع مواطنيهم الذين يظلهم علمٌ واحد.