Riaz Hassan Yale Global


يظهر تحليل 'للاستشهاديين' في 'حزب الله' في لبنان أن الهجمات الانتحارية تزداد مع معدل الدخل الحاضر ودرجة الإيثار تجاه الجيل التالي، ويتحدر منفذو العمليات 'الاستشهادية' في 'حزب الله' من أسر ثرية فوق المتوسطة ويتمتعون بمستويات تعليمية فوق المتوسطة أيضاً، فاستعداد المثقفين إلى المشاركة في المهمات الانتحارية يدل بالتالي على أن التعليم يؤثر في وجهة نظر الفرد من العالم ما يعزز حساسيته تجاه المستقبل.

منذ تسع سنوات، استولى 19 شاباً مسلماً على طائرات ركاب وقتلوا أنفسهم، مصطحبين معهم 2973 شخصاً إلى الجحيم، ومنذ هجمات التاسع عشر من سبتمبر، أصبحت التفجيرات الانتحارية الخبز اليومي في وسائل الإعلام، بالرغم من أن نشاطها يعود إلى عقدين من الزمن على الأقل، ووفق القصة المتداولة على نطاق واسع، تُعتبر مثل أعمال التدمير الذاتي هذه من فعل أفراد متضررين نفسياً، ومنحرفين أخلاقياً، وغير مثقفين، وفقراء، والأهم من كل ذلك، متعصبين دينياً.

لكن تحليلاً معلوماتياً يستند إلى 1597 هجوماً انتحارياً نُفّذ بين عامي 1981 و2008 وأودى بحياة أكثر من 21 ألف شخص في 34 بلداً، يشير إلى مجموعة أسباب أكثر تعقيداً من الضروري فهمها إن كان العالم يريد أن يرى نهاية لهذه المذابح، وهكذا أحلل في كتابي بعنوان 'الحياة كسلاح' Life as a Weapon، التفجيرات الانتحارية كوسيلة خيار بين المجموعات الإرهابية في أنحاء العالم فضلاً عن الدوافع.

والمفاجئ أن الإيثار يشكل أحد العوامل الجوهرية في مجموعة الأسباب المعقدة وراء الهجمات الانتحارية.

بالاستناد إلى الدراسات البالغة الأهمية التي أجراها عالم الاقتصاد، إرنست فيهر، وزملاؤه، يمكن تعريف الإيثار، بشكله الأساسي، على أنه الأعمال الباهظة الثمن التي تعود بالمنافع على الغير، فالإيثار بالتالي شرط أساسي للتعاون البشري على تنظيم المجتمع والحفاظ على تماسكه، وفي خارطة المفاهيم لعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركيم، تقع التفجيرات الانتحارية في خانة الانتحار الذي يُنفّذ حباً في الغير، وذلك بخلاف أنواع الانتحار الأخرى الناجمة عن المصائب الشخصية، واليأس، والأمراض النفسية التي تدفع بالناس إلى الاعتقاد بأن الحياة لا تستحق العيش. في المقابل، يعطي الانتحار المدفوع بالإيثار قيمةً أقل للحياة منه لشرف المجموعة، أو دينها، أو مصالحها الجماعية الأخرى.

يُشار إلى أن أصل التفجيرات الانتحارية متجذّر في الصراعات الضروس غير المتكافئة التي تضع الدولة واللاعبين غير الحكوميين في مواجهة حول برامج حكومية تضمن منافع سياسية، واحتلالاً للأراضي، وتجريداً من الممتلكات، وتولِّد مثل هذه الصراعات عادةً عنفاً مُجازاً من الدولة وسياسات قمعية ضد فرقاء غير حكوميين أضعف ما يثير موجةً عارمةً من أعمال العنف المتطرّفة ويؤدي إلى حملة تهجير واسعة للناس الذين يتحول كثيرون منهم إلى لاجئين في مخيمات بديلة، داخل أو خارج ما يُسمى مناطق الحرب.

في هذا الإطار، تصف كارولين نوردستروم ما كانت عليه الحال في سريلانكا خلال الحرب الأهلية التي انتهت منذ وقت قريب: 'تسلل العنف والحرب، من مناطق الحرب، إلى جميع أوجه الحياة اليومية، فلم يعد أكيداً أن الشخص الذاهب إلى عمله سيعود إلى منزله في المساء، قد يخضع منزل للتفتيش المفاجئ، أو يُقتل أحدهم بوحشية، أو تُغتصب أم أو يُنتزَع أب من كنف عائلته، وقد تسقط قذيفة في أي مكان وتدمر كل ما حولها... بدل أن يقضي هذا المناخ العنيف الطاغي على المقاومة وروح الشعب، يولِّد في النهاية حساً من المقاومة والتحدي لاسيما لدى الشباب'. أما العوامل الأخرى فتتضمن الاعتقال والتعامل المذل والمهين مع المتمردين في سجون الاعتقال التابعة للدولة وتجريد 'الآخر' من إنسانيته.

تنتقي المنظمات الإرهابية بالتالي التفجير الانتحاري، الذي نادراً ما يكون استراتيجية الخيار الأول، بعد تقييم جماعي، يستند إلى ملاحظات وتجارب، لفعالية الاستراتيجيات النسبية في تحقيق الأهداف السياسية، وما يسهل عملية اتخاذ القرار بالمشاركة تفاصيل هويات الانتحاريين الاجتماعية، وتعرضهم لصراع غير متكافئ ولتكاليفه، وتعاملهم مع منظمات ترعى مثل هذه الهجمات، فضلاً عن انتمائهم إلى مجتمع أوسع حيث تحمل التضحية والشهادة أهمية رمزية عالية، ففي سريلانكا، أولى نمور التاميل أهميةً لكيفية نظر المجتمع إلى أفعالهم، لذا كانوا يُعظَّمون أثناء مراسيم دفنهم، وتزيّن شعلة لا تنطفئ شاهد قبر كل من نمور التاميل لتخليد ذكرى تضحيته.

من المنظورين الاجتماعي والاقتصادي، يمكن ربط التفجيرات الانتحارية بالإيثار باعتبارها أحد أشكال الاستثمار بين الأجيال أو أحد أشكال الإنقاذ المتطرفة حيث يتخلى العميل عن الاستهلاك الحاضر لمصلحة تعزيز احتمال أن تنتفع الأجيال المتحدرة من بعض الخير العام في المستقبل.

من هذا المنطلق، يظهر تحليل 'للاستشهاديين' في 'حزب الله' في لبنان بأن الهجمات الانتحارية تزداد مع معدل الدخل الحاضر ودرجة الإيثار تجاه الجيل التالي، ويتحدر منفذو العمليات 'الاستشهادية' في 'حزب الله' من أسر ثرية فوق المتوسطة ويتمتعون بمستويات تعليمية فوق المتوسطة أيضاً، فاستعداد المثقفين إلى المشاركة في المهمات الانتحارية يدل بالتالي على أن التعليم يؤثر في وجهة نظر الفرد من العالم ما يعزز حساسيته تجاه المستقبل.

يُذكَر أن الإيثار لا يتعارض مع الأعمال الحربية، ففي زمن الحرب، يؤدي الجنود أعمالاً تنم عن إيثار عبر المخاطرة بحياتهم لمصلحة رفاقهم وبلادهم وقتل العدو على حد سواء، وما فعله الانتحاريون من الطيارين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية مثال على التضحية العسكرية.

فضلاً عن ذلك، قد يتشكل الإيثار اجتماعياً في مجتمعات تعاني تفككاً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً نتيجة صراع طويل الأمد، وعنيف، ومؤلم مع عدو أكثر قوّةً، في مثل هذه الظروف، يرد الشعب على ضعفه الملحوظ وفشل مساعيه الأخرى عبر تقدير مبادئ التضحية بالذات مثل التفجير الانتحاري ودعمها، فبفضل المواقف الدينية والقومية تجاه تقبل الموت النابع من فترات طويلة من المعاناة الجماعية، والإذلال وقلة الحيلة، تصبح المنظمات السياسية قادرة على إتاحة التفجير الانتحاري للناس للتنفيس عن مشاعر اليأس، والحرمان، والعداء، والظلم التي تختلج في نفوسهم.

مع ذلك، تظهر الأدلة على حد سواء بأن مثل هذه المعاناة الشخصية والجماعية التي تحفّز الانتحاريين تعيش جنباً إلى جنب مع مشاعر الإيثار الداخلية التي يكنونها وحس العدالة لديهم. فقد صلّى انتحاري عراقي يُدعى مروان لئلا 'يقتل أناس أبرياء خلال مهمته'. هذا وعدلت شفيقة، انتحارية فلسطينية اعتُقلت في إسرائيل، عن تفجير جهازها بعد رؤيتها 'امرأة مع طفل صغير في عربتها، تساءلتُ حينها، لمَ علي إلحاق الأذى بتلك المرأة وطفلها؟... فذلك أمر لن يرضاه الله، وفكرت في الناس الذين أحبوني وفي الأبرياء في الشارع... كانت لحظة صعبةً جداً بالنسبة إلي'.

من جانب آخر، أجرى المخرج الفرنسي بيار ريهوف لفيلمه بعنوان 'الانتحاريون' Suicide Killers مقابلات مع فلسطينيين كثر في السجون الإسرائيلية، اعتُقلوا عقب تنفيذهم هجمات انتحارية فاشلة أو لمساعدتهم وتحريضهم على مثل هذه المهمّات. حاول جميعهم إقناعه بأن ما فعلوه كان الرد المناسب لأسباب أخلاقية، وعلى حد قول ريهوف، 'هؤلاء ليسوا أولاداً يرغبون في إلحاق الأذى، إنما هم أولاد يودّون فعل الخير'. بنتيجة الأمر، يعتقد الشبان الذين عاشوا حياتهم سابقاً كأشخاص محبين للخير بأن محاولتهم تنفيذ عملية انتحارية كانت لهدف سام، فقد ولد الإذلال اليومي الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي كراهية جماعية في نفوسهم، وجعلهم يتشرّبون عقيدة الشهادة. على حد تعبير عالم النفس في جامعة ستانفورد، فيليب زيمباردو، 'لا تنم هذه العقيدة عن غباء أو قلة وعي، إنما نحن أمام عقلية ووجهات نظر مختلفة جداً عن تلك اعتدنا ملاحظتها لدى الراشدين اليافعين في معظم البلدان'.

في المقابل، تدفع التفجيرات الانتحارية عادةً بالسلطات إلى الرد بوحشية، فعبر بث الخوف والفوضى في إيقاع الحياة اليومية الطبيعي، تضعف مثل هذه التفجيرات قدرة الدولة على توفير الأمن والحفاظ على النظام الاجتماعي، وفي ظل ظروف مماثلة، تستطيع الدولة بشكل شرعي فرض عقوبات تنم عن إيثار لدرء الانتهاكات المستقبلية التي تهدد الأمن والنظام الاجتماعي، من ضمنها العقوبات بحق منفّذي التفجيرات وداعميهم، ومن الأمثلة عليها الإجراءات العسكرية المفوّضة من الدولة ضد الفلسطينيين، ونمور التاميل السريلانكيون، والمتمرّدون العراقيون، وعناصر 'طالبان' في باكستان وأفغانستان.

لكن العقوبات النابعة من حب الغير لا تؤتي فعاليتها إلا حين تتطابق ومعايير العدالة، ذلك لأن العقوبات التي تعتبرها المجموعات المستهدَفة جائرة، وعدائية، وأنانية، وانتقامية لها عادةً تداعيات كارثية، فعوضاً عن تعزيز الرضوخ، تزيد في المقابل من تصميم متلقيها على عدم الامتثال. تهدف عمليات مكافحة التمرّد بالتالي إلى زيادة تكلفة التمرّد على المتمرّدين، وتتضمن عادةً تصفية القادة والداعمين الذين يخططون لتفجيرات انتحارية، وتدمير قدرات المتمرّدين على شن هجمات إرهابية، وفرض قيود على حركتهم فضلاً عن انتهاكات أخرى للحريات المدنية.

مع ذلك، تشير الأدلة المتزايدة إلى أن مثل هذه الإجراءات الصارمة تقوّي المعارضة الأصولية لا بل تزيدها حدّةً، وهذا ما يحدث اليوم في باكستان، وأفغانستان والأراضي الفلسطينية، وما حدث في سريلانكا، والعراق، ومناطق الصراع الأخرى.

*أستاذ فخري في جامعة فليندرز في أديلإيد في أستراليا، وبروفيسور عالمي في البحوث الاجتماعية والسياسة العامة في جامعة نيويورك في أبو ظبي. نُشر كتابه الأخير بعنوان Life as a Weapon: The Global Rise of Suicide Bombings الشهر الفائت من قبل دار راوتليدغ.