إياد الدليمي


أطالع وبشكل يومي بعض الصحف العراقية المستقلة غير المتحزبة، وكذلك بعض مواقع الأخبار التي تهتم بالشأن العراقي، فأنا مثلي مثل ملايين العراقيين الذين تغربوا عن وطنهم تحت وطأة التهديدات، لا نملك سوى يومياتنا المحملة بالحنين والأشواق، فيكون يومنا مثل أمسنا مثل غدنا، باحثون عن بارقة أمل يمكن أن تأتي من صوب بلاد الأحبة، لذا لا بد لنا أن نقلب صفحات الأيام تلو الأيام، وفي كل مرة يخيب الرجاء، وتعود العيون السابحة بدمعة الأشواق تنسل رويداً رويدا وهي تعيد الكرّة مرة أخرى، ولا فائدة، فلا مناص من البحث في البعيد، في يوم آخر قد يحمل خبراً آخر. الصورة المأساوية التي خلفها الاحتلال وأحزاب السلطة في العراق، أكبر من أن توصف، غير أن بارقة الأمل ما زالت متقدة فينا، ما زالت تنعش الآمال بصباح يوم جديد، لا يحمل أخبار الموت السائر في الطرقات، وهو ينتقي كل يوم أحبة جدداً.
ما بين هذا الكم الهائل من أخبار الوطن المدمى التي تطالعك بها نشرات الأخبار كل صباح أو حتى صحف الوطن، لا بد أن تستوقفك تلك الأقلام العراقية التي بدأت تنفض عن حبرها غبار الخوف والخشية من التهديدات والاغتيالات، وصارت تصوغ الحقائق بطريقة مغايرة لما سعت لتكريسه أحزاب السلطة طيلة السنوات السبع الماضية.
فرغم وجود أكثر من 300 صحافي عراقي فقدوا حياتهم خلال سني الاحتلال البغيض، وعلى الرغم أن هناك دفعة كبيرة من صحافيي الوطن قد أجبروا على تركه تحت طائلة التهديدات، ومثلهم أو يزيد من قرر التخلي عن مهنة المتاعب التي تحولت إلى مهنة للموت، إلا أن هناك فريقا آخر من صحافيي العراق قرروا أن يعيدوا الثقة لمهنتهم ويجددوا التواصل مع قارئهم عبر كتابة تستحضر كل مآسي البلاد وتسمي الأشياء بمسمياتها، وتتوعد كل الساسة الذين تاجروا بقضية البلاد والعباد.
لقد بدأت الصحافة في العراق تتمرد على الأوضاع الدامية في هذا البلد، وصار صوتها اليوم أعلى من ذي قبل، وصار واضحا أن حقبة الصحافة الحزبية إلى زوال، رغم كل الإمكانات المتوفرة، والتي وصلت إلى حد تسخير إمكانات الدولة العراقية لخدمة هذه الصحافة، كما أن الإعلام التابع للدولة، صار عبئا ثقيلا على يوميات المواطن العراقي، بعد أن خضع لسلطة الحزب الحاكم، وما عاد يلبي طموحات المواطن العراقي.
بارقة الأمل للمتابع ليوميات المشهد العراقي، تتمثل في تلك الأقلام العراقية التي تصر على أن تكون مستقلة، وتصر أن تكتب الحقيقة، وتدافع بشتى الكلمات عن حق التعبير رغم الموت، وتؤكد أحقية أن يكون للعراق إعلام حر يمثل رغبات الشعب لا رغبات الحكام.
لم يعد كافياً أن يتذمر المواطن العراقي من حالة العنف الدامي الذي يضرب أطناب البلاد دون أن تتمكن ما تعرف بالأجهزة الأمنية من وضع حد له، ولم يعد كافيا أن تخرج الكلمات العفوية من أفواه المنكوبين في عراق الموت وهم يسمعون عن الأرقام الفلكية من الدولارات وهي تتكدس في استثمارات بلندن وطهران ودمشق وعمان والقاهرة ودبي، وكلها تعود لأرباب العملية السياسية والأحزاب الدينية الطائفية، بل صار واجبا على كل مثقف عراقي يتمنى أن يرى بلده أفضل أن يستل قلمه ويشارك، ويكتب الحقيقة بلا تزويق أو تزييف. بوارق الأمل من عراق الألم كثيرة، إلا أن أبهى تلك البوارق هي الأقلام الحرة، التي صارت تصدح بين جنبات الوطن، محرضة على رفض الواقع، واضعة السيف على رقاب الجلاد، بعد أن نجح لسنوات خلت في وضعه على رقاب الصحافيين وأقلامهم.
لقد تمكنت الحكومات التي تعاقبت على إدارة شؤون العراق على تحويل الإعلام إلى بوق كبير يزيف الحقائق ويزوق المشاهد البشعة، ويجمّل القبح، وهو ما أفقد الصحافة في العراق طعمها، حتى جاءت سنوات الاحتلال، وبين ترقب أهل المهنة لغد أفضل، جاءت أفواج من الظلاميين لتحكم البلاد معلنة الحرب على القلم، فقتل العشرات من الصحافيين، وتصدرت المشهد الإعلامي صحف تابعة لأحزاب السلطة، سعت لاجتذاب قارئها في بداية الأمر، إلا أن الأمور سرعان ما تغيرت بعد أن أدرك العراقيون أنهم استبدلوا حزباً واحداً بعشرة أخرى لا تختلف عن الأول سوى بالاسم.
قاطع العراقي مبكرا الصحافة الحزبية، ولولا أن تلك الصحف كانت تمول نفسها من ميزانية حزبها الذي كان يمول من خزينة الدولة العراقية، لما بقيت صحيفة حزبية واحدة في عراق ما بعد 2003.
اليوم هناك ظاهرة بدأت تفرزها يوميات المشهد العراقي، تتمثل في عودة الصلة بين العراقي والصحافة؛ إذ نجح بعض الإعلاميين العراقيين في استغلال القطيعة بين المواطن والصحافة الحزبية، وقدموا مادة صحافية أكثر مصداقية ومهنية وموضوعية، بعيدة عن التحزب، وبعيدة عن مافيا الحكومة.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض الصحف المستقلة ورغم عمرها القصير الذي لا يتجاوز العام الواحد، خلقت لنفسها قاعدة شعبية تتعدى الطوائف والقوميات والأحزاب، رافعة لواء الوطن أولاً.
تحية لهذه الأصوات الحرة، تحية للصحافة العراقية المهنية التي أعادت الأمل بغد أفضل، وهي ترفض الوصاية، وتنحت الكلمات متحدية الموت، وحفظ الله جميع الأقلام التي تكتب للعراق الواحد.