عبدالله اسكندر

تفجير الكنيسة القبطية في مصر، والذي تزامن مع بدء السنة الجديدة، يقدم الحصيلة الفعلية لواقع المنطقة مع انتهاء عام من الزمن. فهذا التفجير، كما الزمن، ليس اللحظة التي تطايرت فيها أشلاء الضحايا. انه ممتد الجذور في الوقائع السابقة ويصب في الوقائع اللاحقة.

وكما لا يعترف عقلنا بمعاني الزمن، تصبح الكوارث بنات المؤامرة الخارجية، فلا نجهد انفسنا في النظر إلى الزمن كتاريخ له جذور في مجتمعنا وصيرورة في أوضاعنا.

لا يهم كثيراً من نفذ التفجير الذي طاول المسيحيين في الإسكندرية بسيارة مفخخة، ولا تهم كثيراً كيفية تنفيذ التفجير. الحدث في ذاته يكفي لتلخيص حجم التآكل والاندثار في المجتمع المصري. وهذا هو الأهم والأخطر. ويفوق في أهميته وخطورته المواجهات المسلحة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بين القوات الحكومية المصرية والجماعات الإسلامية المتشددة.

تلك المواجهات انحصرت بين حكم اعتبره المتشددون كافراً يستحق القتال. والاعتداءات التي طاولت المسيحيين خلالها كانت نوعاً من laquo;مضاعفات جانبيةraquo; لها. أما تفجير الكنيسة فهو استهداف للمسيحيين لذاتهم، ولكونهم جزءاً من مجتمع لم يعد قادراً على هضم هذا الوجود.

كما أن التفجير يرتبط بتلك الحملة التي يشنها المتشددون على المسيحيين في العراق، سواء كانت laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo; (laquo;القاعدةraquo;) وراءه مباشرة أو لا. فالتهديد الصادر من العراق للمسيحيين في مصر يعني أن ثمة laquo;قضيةraquo; مسيحية باتت مطروحة في المنطقة، خصوصاً في الدول حيث هناك وجود للمواطنين المسيحيين. مثلما هناك laquo;قضية تبشيرraquo; في دول حيث الغالبية الساحقة مسلمة.

بكلام آخر، لم تعد المسألة مجرد أقلية مسيحية تعاني مثل غالبية مسلمة، كما يميل كثيرون إلى التحليل في العالم العربي، وإن كان صحيحاً أن ثمة معاناة مشتركة. المسألة باتت تتعلق بمعنى الوجود الراهن للمسيحيين، وإن كان التعايش والمواطنية طبعا الدولة العربية الحديثة خلال العقود الأولى لنشأتها.

صحيح أن التآكل في المجتمعات العربية يطول كل المكونات، وأن المرجعيات المجتمعية تنحسر من الدولة إلى تراتبية ما قبل دولتية. لكن الصحيح أيضاً أن استهداف فئة دينية لذاتها يكشف المدى الكبير لنكوص الوعي المجتمعي عن الدولة، وتالياً صعوبات استردادها، بما هي ضامنة للمساواة في الحقوق بين المواطنين، وأهمها حق حرية المعتقد. وبديهي أن هذه المساواة ليست مسألة حقوقية مجردة يضمنها قانون، وإنما هي في جوهرها مجتمعية يضمنها المجتمع.

حالياً، المسيحيون مستهدفون بالقتل والتفجير في العراق ومصر، بفعل موقف واضح وعلني من تنظيمات أصولية. لكن هذا الاستهداف لم يكن بهذه السهولة لو لم تتوافر الظروف الدولتية والمجتمعية، ولو لم تؤسس العقود الماضية لوضع لم تعد فيه الدولة قادرة على حماية حقوق مواطنيها، عجزاً أو مسايرة، ولم ينكص هؤلاء المواطنون عن كونهم مجتمعاً واحداً.

نجح الأصوليون في ترسيخ فكرة المواجهة مع الغرب، بصفته المسيحية. كما نجحوا في تعميم نظرية مؤامرة هذا الغرب على الإسلام. وهم اليوم يعملون على إلحاق الوجود التاريخي المسيحي في المنطقة بهذا الغرب، وليكونوا أداة في مؤامرته. إنها ابسط السبل للتجييش والتحريض وافتعال معارك ومواجهات، وأبسط السبل لإحراج السلطات التي ستجد نفسها بين مطرقة الأصوليين وسندان الدفاع عن مسيحيين. والمثل الباكستاني في تعديل قانون التجديف خير مثال على هذا الإحراج والاستدراج.

رأس هذه السنة في العراق ومصر ليس الفترة التي تفصل بين عام مضى وسنة مقبلة. والتفجيرات التي تستهدف المسيحيين فيهما ليست نتيجة مؤامرة خارجية أو بفعل معتوه أو أصولي، إنها حصيلة أوضاع منطقتنا منذ عقود، وستطبع مستقبلنا لعقود أيضاً.