في ظل الوضع العراقي المهتريء، وفي زمن سيادة الأفكار العدمية و التوجه الرسمي العام نحو بناء الأسس الحقيقية لدولة أصولية عراقية متخلفة و لمجتمع عراقي منغلق على ذاته ينهل من خرافات التاريخ و يبدع في جلد الذات و يحارب الحضارة و التنوير و يكرس قيم التخلف و ينحدر الخطاب الرسمي لمستوى الشوارع و الأزقة فإن مهمة وزير الثقافة تبدو عقيمة وفاقدة لقيمتها الإنسانية و الرسمية و حتى الوجودية، فهذا المنصب في ظل حكومة يرأسها و يوجه محاورها و يرسم خططها الستراتيجية حزب ديني عقائدي معروف وهو حزب الدعوة أو النسخة الشيعية للإخوان المسلمين لايمكن أن يكون فعالا أو أن يقدم أية مكاسب و منجزات حقيقية للثقافة العراقية فضلا عن القيام بثورة ثقافية و مجتمعية عراقية تهدم كل معالم حالة الخراب الكبيرة و تؤسس لإتبثاق حالة نهضة ثقافية عراقية شاملة تكتسح كل حصون و معاقل التخلف و العدمية و الإغراق في عوالم الغيبيات..!

إنها المهمة المستحيلة التي لا يمكن لأي جهة ثقافية عراقية في زمن الطائفية و الميليشيات التفكير بها فضلا عن القيام و الإضطلاع بمسؤوليتها الجسيمة، لقد تم توزير تلك الوزارة بموجب حسابات المصالح و التنفيع و العلاقات الشخصية ولم يتم أبدا السماع أو حتى إحترام وجهات نظر أهل الشأن الثقافي، فنداء الأستاذ فاضل ثامر رئيس إتحاد أدباء العراق بإبعاد وزارة الثقافة عن المحاصصة و تكليف مثقف عراقي بمسؤوليتها قد تلاشى مع الريح وذهب أدراج الرياح لأن قادة حزب الدعوة كأسلافهم الطالحين في حزب البعث لا يحترمون الرأي الآخر و لا يستمعون إلا لمخططاتهم السلطوية المرسومة بدقة و المعدة في ليل عراقي حالك السواد.

لقد توهم المثقف العراقي أنه يستطيع صناعة جزء من المشهد السياسي وهو وهم كان مستمرا في الحياة السياسية العراقية في العصر الحديث، ففي الماضي كان صوت العسكر هو الطاغي إذ لاصوت يعلو على صوت المعركة، وكان ضباط الجيش من أهل الإتقلابات هم الذين يصنعون المشهدين السياسي و الثقافي، ثم جاء دور رجل المنظمة السرية البعثية التي كانت تعتبر المثقفين زمر متآمرة لأنها تفكر خارج عقلية القطيع و لا تلتزم أبدا بالشعار الحزبي القائل نفذ ثم ناقش وهو شعار فاشي بإمتياز و كان واضحا من أن البعثيين وهم في حالة عري من الثقافة لأن حزب البعث كان يتميز بخلوه من المثقفين الحقيقيين و الذين إن وجدوا تم إستئصالهم بسرعة كأي ورم خبيث قد إستطاعوا إستجلاب و إغراء بعض المثقفين الشيوعيين الذين تمت إعادة طلائهم بالشعارات البعثية إياها وهي شعارات ساذجة وغبية و سطحية ولكنهم رغم ذلك لم يتحملوهم أيضا لذلك تم إعدام أو إخفاء المفكر العراقي المعروف عزيز السيد جاسم!

فكانت الغلبة في ثقافة عراق البعث لمن يدين بالولاء لثقافة المؤسسة الحزبية ولمن يجيد فن النفاق وإستعمال المسدس خصوصا و أن عسكرة وتجييش الثقافة العراقية قد جاءت مع ( قادسية صدام )! الماراثونية الدموية المرهقة وحيث فرض على المثقفين العراقيين ضرورة المشاركة في جبهات الحرب و النهل من تجاربها الدموية و الكتابة عنها..! مما أفرز مجموعة فاشية من المثقفين خرجت عن كل قواعد الحضارة و السلام الفكري وسببت ضررا للثقافة العراقية التي تراجعت أسهمها و أنكفأت تأثيراتها كما إنكفأت وتراجعت مجالات الشعر و القصة و الموسيقى التي تم إستغلالها عسكريا أبشع إستغلال فكان المسرح العسكري مثلا هو الجهة التي تخرج المطربين بعد أن إنخرط كبار مبدعي العراق في فن الموسيقى في مهرجان الزحف على البطون لمبايعة القائد المهزوم صدام حسين، فهل تتذكرون إبداعات الموسيقار العراقي المعروف (طالب القره غولي ) الذي تحول في أخريات أيامه لموسيقار لنظام مهزوم له دوره في صياغة أناشيد النصر الوهمية.. و غيره الكثير طبعا، فالسلطة الغاشمة تفرض منطقها و من يخرج من إطارها يتيه و يضيع في المعتربات حيث إنعدام الرعاية و التفرغ و الإنشغال في متابعة هموم الحياة وتكايفها و تصاريفها.

لقد خرج من العراق منذ الثمانينيات ثلة من خيرة مبدعي و فناني و أدباء و موسيقيي العراق و لكنهم ضاعوا للأسف في الغربة و أنتهت إبداعاتهم أو إستهلكها نزيف التشرد و الملاحقة وعدم الإستقرار، لقد خرج المرحوم محمد مهدي الجواهري و مصطفى جمال الدين وعبد الوهاب البياتي و كوكب حمزة و كمال السيد وفؤاد سالم و غيرهم المئات من المبدعين حتى فرغ العراق من مبدعيه الحقيقيين و لكن أولئك جميعا لم يستطيعوا تقديم الإبداع بالطريقة التي كانوا سيقومون به في حالة إستقرارهم في أوطانهم، فالللتشرد و الغربة ثمن و أي ثمن؟

و اليوم و بعد التغيير الأمريكي الزلزالي الكبيير الذي غير قواعد اللعبة السياسية في الشرق الأوسط لا يبدو المشهد ورديا بالمرة، بل أن سيناريوهات و أجندات و ملفات الصراع الإقليمي و الدولي لم تلق بالا للمثقفين بل إهتمت بالشوارد و النطيحة و المتردية من أهل الميليشيات و الفكر الطائفي المتخلف من مختلف الملل و النحل فأولئك هم أبطال المرحلة وهم سادة الميدان في الزمن الأغبر الراهن... طريق الإصلاح و التقدم في العراق لا يمكن أن يكون عبر السلاح و التجييش و العسكرة، بل عبر الثورة الثقافية و المعلوماتية الحقيقية، وهذه الثورة ممنوعة حاليا و اهل الثقافة يتعرضون للتصفية أو للتهميش و الألغاء و إحتقار الثقافة هو جزء من مخطط إقليمي واسع المدى لفرض منطق الغيبية وتقسيم الأوطان تحت الشعارات الجاهلية و المنتهية الصلاحية..

وزارة الثقافة العراقية هي أخطر الوزارات فعلا لو كان هنالك قرار على نهضة العراق.. و لكنها اليوم مجرد محطة للمتقاعدين و صالة ترنزيت للمنتظرين لمناصب أكبر و اكثر مدخولية و كاملة الدسم... فلك الله أيتها الثقافة العراقية المظلومة، لقد إستهللك البعثيون و أزدراك الطائفيون و أصبحت سلعة في سوق النخاسة الطائفية العراقية...

[email protected]