الفلسفة عند أفلاطون أسمى أنواع الموسيقى، لأنها تطهير أو تمرين على الموت، كبجعة تغني لحظة موتها.

سقراط كما تعرضه محاورة فيدون يتناول الشكران ببهجة وسرور، لأنه بحسب أفلاطون عارف أو محب للمعرفة، والعارف أو الفيلسوف هو المتطهر الطاهر الذي يقترب أشد القرب من الموت. والفلسفة تجد ذروتها في الموت، الموت فقط هو غاية الرغبات ومحل الاشتهاء، والتطهر هو اشتغال الفلسفة.

قد يبدو المفهوم الأفلاطوني مزدوجا حد التنافر، فالموسيقى التي هي حركة، لا تلتئم مع الموت الذي هو سكون، لكنه سيبدو في اتساق تام حين يقوم على افتراض أن الموت هو الغاية الفلسفية التي هي صيد الوجود أو الإمساك به حسب التعبير الأفلاطوني.

الفلسفة موسيقى حين تكون استشكالا أو منهجا لصياغة الأسئلة، لكنها تصبح موتا حين تبلغ الذروة وتمسك بجوهر الوجود، اليقين إذن هو الموت، موت الفلسفة وحياة الفيلسوف، هكذا يقرر النص الأفلاطوني المضلل ربما، بصفته نصا رمزيا يتيح إمكانية متعددة التأويل، فهو يغريك إلى تجاوزه نحو دلالات تقلب ظاهر النص إلى اعتبار الريب ndash;وليس اليقين- موتا للفيلسوف وحياة للفلسفة.

الفلسفة أو الفكر ndash; هكذا من الآن وصاعدا تحاشيا لسوء الفهم- ينتعش بالشك على حساب اليقين: بدا سقراط مندهشا ثم بدأ يسأل، فمهمته كمفكر هي كيف يسأل، أو كيف يستشكل، لا كيف يقرر ويقدم الأجوبة في توكيدات نهائية، وإن كان لابد من جواب فهو الذي يبدع مزيدا من الأسئلة حتى يصل أخير إلى الأمل أو الغاية النهائية للفكر، أعني صيد الوجود.

ينتج عن هذه المغامرة أو التهور الفكري في معالجة النص الأفلاطوني تثمين وانحياز للريب على حساب اليقين، ليس بمعنى تنصيب الشك ليغدو نقطة النهاية للاشتغال الفكري، بل بوصفه البداية المنهجية أو الحياة الفعلية للفكر القادر على أن ينتج إبداعا وخلقا فكريا جديدا، فما من فكر متجاوز إلا ولابد أن يبدأ بريب مرضي يستقر داخل بنية الفكر، ديكارت بدأ بالشك quot;الشك المنهجيquot; وكانط بدأ به أيضا قبل أن تهزه صيحة quot;هيومquot; ليفجر ثورته الكوبرنيكية في فلسفته النقدية.

الشك هو البداية، وللمعرفة علاقة عذرية لا تمنح ذاتها إلا لمن تجرأ على الشك quot;تجرأ على أن تعرفquot; كما يقول كانط، فالجرأة المعرفية تستبطن عزوفا كاملا عن المقدسات أو المحرمات أو المسبقات: المعرفة أرض بكر لا تقبل إلا العقول المفرغة من اليقين.

في الجزم والثقة أو اليقين ثمة قابلية للجهل المركب، بخلاف الشك فهو معرفة بالقوة: إمكان معرفي محض.. وإلى ذلك فإن أي فكر يبدأ من حيث يجب أن ينتهي، أي يبدأ متيقنا، هو فكر ميت، أو مراوحة في جهل مركب، هذا الفكر المبتهج والسعيد بقناعاته، نسميه بوصفه فكرا متيقنا جازما دوغمائية، وطمأنينة بوصفه حالة سيكولوجية، وتقريرية غنية بالأجوبة على مستوى اللغة والأسلوب، وأصولية تتسم بنمط حاد من الاقصائية والعنف الرمزي كلما تأتى له أن يستقر كواقعة اجتماعية. إن الوثوقية حالة مفارقة دائما، تقفز على التحليل لتصل إلى توحيد أو تركيب متعسف بين القضايا المتنافرة، وهي مفارقة لأنها تتعالى على المجتمع، على الواقع، على التجربة، وتتمسك بتعميم مسبق ينطوي على مصادرة.

بحسب quot;كانطquot; كانت الفلسفة قبل هيوم تنعم راكدةً في جنة الطمأنينة والثقة، ولكن بعد مجيء هيوم أوشكت الشكية على ابتلاع الفلسفة. هز هيوم الميتافيزيقا واقتلعها من جذورها، إن الاهتزاز الفلسفي الذي أوقظ كانط بدأ مع الاشكالية التي دشنت التجريبية، فهي لا تقر بالوصل والسببية الضرورية، بل بالعادة: ترقب الحدوث والتعاقب للأشياء المتلاحقة، فنحن لا نتنبأ على نحو اليقين، ولا يمكننا رصد الظاهرة بربط آلي لتعاقب سابق، بل نحتمل أو نترقب، وبفعلها هذا أدخلت الفلسفة برمتهاndash;كما يرى كانط- في quot;ريبيةquot; كلية، ربما يستثنى منها الرياضيات.

يبنى الاستثناء الكانظي الذي يحفظ للرياضيات قيمتها اليقينية على تقسيم للمعرفة من بين تقسيمات عديدة: الميتافيزيقا، الفيزياء، الرياضيات، وبينما نجد أن من السهولة quot;ادانةquot; الميتافزيقا بالنسبية، لا يخل الطريق في القسمين الآخرين من وعورة، وهنا ثمة سؤال تترافع به النسبية: هل أن المعرفة الطبيعية والرياضية يمكن اعتبارها معرفة كلية وموضوعية تكشف عن اليقين واطلاقية الواقع، أم أنها مجرد صناعة ذهنية تستهدف غايات ضرورية يمكننا وصفها بالاجرائية كما أوضح نيتشة؟ المؤكد أن هناك واقعا ثابتا في مقابل أفهام متعددة، بعبارة موازية: الحقيقة المتمنعة واحدة لكن الرؤية مزدوجة أو متعددة، وباستعارة صوفية: الوحدة المتسامية تتجلى في الكثرة، هذه التعددية تبدو عيانا بالفحص النقدي الداخلي للمعرفة، حيث يشخص الواقع quot;الواحدquot; بطرائق متفاوتة وليست بالضرورة متناقضة، هذه الطرائق هي النظريات، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية التي لازالت تحب نحو الدقة المنهجية، لازالت في أطوارها الأولى في التأسيس النسقي العلمي، فثمة تعددية نظرية في قلب التفسير العلمي للمجتمع أو الإنسان أو الغيب أو أي ظاهرة إنسانية.

وحينما تشكل الريبية مضمون الفكر، أو حينما تعجز المقولات عن أن تصبح صورا معممة لفكر يقيني، أو حين يكف الفكر عن أن يكون موضوعيا، حينها فقط سيحتضن الفكر التعددية والنسبية، ويصبح أحدهما الشيء نفسه، وستغدو الحقيقة كما لو أنها ملكية اشتراكية أو مشاعية بدائية إذا جاز التعبير.

واللغة بوصفها عملية فكرية ستنأى بنفسها عن التقرير وصيغة الجواب التوكيدي، لتتخذ أسلوبا هرقليطيا، إنها لا تفصح، كما أنها لا تحجب. ستغدو اللغة بنية إشارية مهمتها الأساسية التلميح بما أنها لا تعبر عن ثقة بل عن سعي لا يكل عن كشف الحقيقة المتوارية دوما، ولهذا قال سيلنغ وقبله الرازي: quot;إن البحث عن الحقيقة لهو أثمن من الحقيقة نفسهاquot; فالسعي الدائم نحو شيء لن نصل إليه أولى من الركود الدوغمائي لليقين، أي لحظة الوصال، ذاك أن الوصال في المعرفة كما في الحب هو نهاية أو موت.

ولكن لحظة اليقين، أو الوصال، حبلى بتولدات ريبية. يتولد عنها ريب ناجم عن تصدع داخلي، فهي تنتعش في الوقت الذي تتصارع فيه المذاهب الثبوتية اليقينية لينفي بعضها بعضا، السفسطائيون وهم مثقفون يونان سخروا من دوغمائية الفلاسفة ومناهجهم العقيمة وتناقضاتهم ليقولوا أخيرا: أن المعيار هو الإنسان، المعيار هو الذات، هو الاختلاف أو الانفصال، والأصل يكمن في التعدد، فالتأسيس السفسطائي يفتتح تصورا نسبيا ينتشر في شتى الحقول: نسبية معرفية، نسبية أخلاقية، نسبية دينية، نسبية اجتماعية.... الخ.

ولكن العقل بوصفه كلي تعميمي لا يقوض ذاته، فالتعميم بما هو صفة ذاتية للعقل يمثل أهم الطعون العقلانية ضد الريبية ومعها التعددية، ولكن تقويضا لموضوعية العقل يأتي من خارجه: التصوف.

إن الخطاب الفلسفي للتصوف يواجه العقلانية بنقد حاد باعتماده على التذوق أو الحدس كقناة معرفية، الحدس الذي يصور العالم كحيز للتمرئي أو التجلي. الذائقة عند الصوفي صورة لمنطق داخلي لا يقر بالثابت بل بأفق مفتوح للتأويل وإنتاج الدلالة quot;المعرفة إذا لم تتنوع مع الأنفاس لا يعول عليهاquot; كما يقول ابن عربي، في موازاة التعبير الشهير للنفري: quot;العلم المستقر جهل مستقرquot;.

وكما أن الطمأنينة أو اليقين نقص أخلاقي أو رذيلة: الكامل من عظمت حيرته، وأشدكم حيرة أكثركم كمالا: وأكثركم حيرة هو محمد (ابن عربي) كذلك فإن الفكر بوصفه موسيقى هو اختلال وليس نسق أو نظام، إنه صوت تحدثه الريح: quot; لَيْسَ العَجَبُ من هذا البَحْر، وإنما العَجَبُ من الرّيح التي تُمَوّجُهُ أَلاَ وإنّ الريح أَنْفاسُكَ فَكُلُّ سَفينة لا يَكُونُ ريحُها منْها فَهي فَقيرةٌ فَعَلَيْكَ بوَحْي الماء(ابن عربي)quot; والحقيقة هروب محض أو تستر: إن الغرض طلب الساحل ولا ساحل، فاترك الموج يسيرك (ابن عربي)..

هذا الخطاب الفلسفي يسعى إلى الحق وليس الحقيقة، الحق الناجم عن وجد، أو الظهور الداخلي للعالم، أو ترك الأشياء تبدي كينونتها دون تدخل عقلاني، كما يعبر هايدغر، هذا الحق يشير quot;وليس يفصحquot; إلى وحدةٍ للوجود رغم الكثرات، يقول لنا التصوف أن العقل عاجز عن إدراكها، عن تمثل كنهها.

ولا يتم هذا الإدراك إلا بحدس أو معرفة مباشرة: توحد أو التصاق بالأشياء والعالم، فالعقل الذي يشتغل على التفكيك والأشياء المفككة لا يستطيع أن يكشف الترابط والأشياء في وحدتها، وهو كما نعرف غاية الغايات في المعرفة: أن تعرف هو أن تكشف الترابط والعالم في وحدته وليس الأشياء الجزئية.

العقل يكشف عن الترابط في علاقة سببية هي في العقل ضرورة: مقولة العلة، ولكن هذا لا يعني ثبوت المطابقة، لعجز العقل عن التمييز بينها وبين العادة، العقل إذن لا يستطيع أن يدرك التعالقات البينية في ذاتها، الإدراك المباشر والذي يتيحه التصوف هو وحده القادر في الخطاب الصوفي على كشف الترابط والتعالق بين الأشياء داخل العالم. هنا تتجلى أكثر من أي منهج معرفي قدرة التبصر والإدراك الصوفي لموت المؤلف أو الفيلسوف ليتيح سلسلة أو تعددا من الإشراقات أو نسبية معنوية: إن الحقيقة في قلب المؤلف.