رغم جميع الملاحظات والمآخذ والسلبيات التي رافقت ارتداء الدكتور أياد علاوي ثيابَ القائد الجديد للعلمانيين والديمقراطيين العراقيين َقبِل به كثيرون منهم، لعدم وجود بديل أفضل، وغضوا الطرف عن ثلاث صفحات غير مرضية من حياته السياسية السابقة. الأولى ماضيه البعثي، وبالأخص أيامَ (نضاله) في الحرس القومي التي لابد أن تكون ترسباتُها النفسية والثقافية والأخلاقية تَحِد من قدرته على التحول إلى الديمقراطية، وتمنعه من قيادة المعسكر العلماني بنجاح بعيدا عن بقايا المخزون الفكري والأخلاقي البعثي الذي يتعارض مع الديمقراطية والعلمانية إلى أبعد الحدود.

والثانية كونُه أحدَ أبرز فرسان المحاصصة الطائفية في جسد المعارضة العراقية السابقة وجميع مؤتمراتها. فقد كانت هويته الشيعية هي بطاقة َ الدخول الوحيدة التي سمحت له، بموجبها، إيران وأحزب الإسلام السياسي بدخوله نادي نخبة زعماء المعارضة الكبار المجهزين الجاهزين لتسلم السلطة بعد سقوط النظام. على أمل أن يصبح الوجه العلماني للمشروع الطائفي الشيعي الإيراني بدل أحمد الجلبي الذي احترقت أوراقه كلها وصار عبئا على الجميع.

والثالثة أنه الإبن المدلل للمخابرات الأمريكية، وهذه ليست شتيمة ولا رجما بالغيب، بل باعترافه هو نفسه، وباعتراف بول بريمر في مذكراته، فالسي آي أي هي التي دعمته ومولته في منتصف التسعينيات، وجعلته الوحيد الذي سمحت له الحكومة الأردنية بإنشاء إذاعة معادية لنظام صدام تبث من عمان، وبإقامة مكاتب لحركته في الساحة الهاشمية لاصطياد العراقيين القادمين إلى الأردن، والاستفادة من معلوماتهم عن النظام، رغم تعارض ذلك مع المصالح الأردنية العليا النفطية والاقتصادية الكبيرة مع نظام صدام حسين. ويعرف كثيرون ممن عاصروا بريمر وعملوا معه أنه كان يشكو من سطوة السي آي أي عليه، ودورها الفاعل في فرض أياد علاوي رئيسا للوزراء، في أعقاب تمثيلية تسليم السيادة إلى العراقيين في عام 2004.

كل هذا تجاهله العراقيون العلمانيون، ومنهم الشيوعيون العراقيون والسيد أياد جمال الدين وعديدٌ من العلمانيين الآخرين وقبلوا بقيادته، إلى أن اكتشفوا ميله التلقائي إلى التفرد بالقرار، والتستر على ما كان يعقده من اتفاقات مهمة ومصيرية مع أجهزة وأحزاب وشخصيات أخرى في الساحة السياسية العراقية والعربية والدولية، دون علم شركائه الآخرين، الأمر الذي دفع كثيرين منهم إلى مغادرة كتلته، ببيانات وتصريحات غاضبة كثيرة.

ومما ُيذكر من منجزات أياد علاوي أنه سبق جميعَ رفاقه زعماءَ المحاصصة الطائفية القادمين من الخارج في احتلال المباني العامة وقصور رجال النظام السابق، وجعلها مستعمرات له ولحركته (الوفاق). فقد احتل نصف الحارثية، وحولها إلى ثكنة عسكرية يحرسها ضباط أمنيون غير عراقيين يمنعون سكانَ المنطقة من الدخول إليها والخروج منها إلا بفرمان.

ونتيجة تساقط أعضاء حركة الوفاق، الواحد بعد الآخر، وتمزق نسيج الكتلة العراقية السابقة التي كانت تضم الشيوعيين وأياد جمال الدين ود. مهدي الحافظ وصفية السهيل وعزت الشابندر وغيرهم، وجد أياد علاوي نفسه يقترب شيئا فشيئا من سياسيين جدد يافعين يترأسون تجمعات عربية سنية صغيرة متناثرة، بعضهم نشأ وترعرع في أحضان حزب البعث وأمجاده السالفة، وما زال مقربا ممن بقي من قياداته وأعضائه في محافظات الوسط السني التي ظلت عصية على أحزاب الإسلام السياسي الشيعية الحاكمة. بالإضافة إلى تنظيمات قومية متعصبة وتنظيمات إسلامية طائفية سنية أخرى، منها جيوش المقاومة، وبعض أطراف (القاعدة) الإرهابية المتخلفة. ولأن هؤلاء جميعا مصابون بلوثة الزعامة فقد فشلوا في القبول بأن يقودهم واحد منهم، خصوصا وأنهم جميعا مبتدئون في عالم السياسة، وقليلو خبرة وتجربة ومراس، ولا يتمتعون بالقبول العربي الأردني السعودي الإماراتي، والدولي الإيراني التركي الأمريكي، فقد ارتأوا أن يستوردوا قائدا من خارج الطائفة يسد فيهم هذا الفراغ، فكان هو أياد علاوي الباحثَ هو الآخر عن حلفاء جدد يحارب بهم وبعشائرهم وتنظيماتهم غريمه اللدود نوري المالكي.

وبرغم كل ذلك أيضا مَنح كثيرون من العلمانيين أصواتهم، في الداخل والخارج، للقائمة العراقية، خصوصا بعد ثماني سنوات من فشل حكم الأحزاب الطائفية وفسادها وعجزها عن تحقيق الأمن والخدمات، أملا منهم أيضا في أن يتمكن علاوي ورفاقه من تغيير قواعد اللعبة السياسية وكسر احتكار السلطة من قبل أحزاب الإسلام السياسي المتزمتة.
ومنذ آذار/ مارس الماضي وإلى يوم أمس والعراقيون يضعون أيديهم على قلوبهم، ويتمنون أن يخرج الوطن من دوامة تشكيل الحكومة، وأن يشهدوا نهاية المعارك المخجلة بين نوري المالكي المتشبث بالسلطة إلى حد الهوان، وبين أياد علاوي الذي أثبت أنه طالب سلطة من الدرجة الأولى يهدد كل يوم بحرق الوطن وأهله بنار الإرهاب السني إذا ما حُرم، هو وحلفاؤه الآخرون في القائمة العراقية، من حصص مجزية في كعكعة الحكومة القادمة.

وأخيرا، وبعد كل ذلك المخاض الصعب، حملت لنا الأخبار مؤخرا أن الدكتور أياد علاوي وجه خطابا إلى الأمة بشرها فيه بأنه قرر طي خلافاته مع المالكي وحلفائه في معسكر الفكر السلفي الطائفي ذاته، لكي يواجه المخاطر التي تواجه العراق. وهذا يعني أنه طلق العلمانية بالثلاثة، وعاد إلى قواعده في نظام المحاصصة السابقة، سالما وبكامل الرضا والأمان.

وكان الأرقى له ولشعب العراق، والأحلى والأكثر كرامة، أن يتخذ هو وحلفاؤه مكانهم في معسكر المعارضة الوطنية الواعية الشجاعة، ويتركوا أصحاب العمائم يحكمون بانفراد. فإن أحسنوا لشعبهم وعوضوه عن خرابهم صلاحا، وعن فسادهم نزاهة، وعن تخلفهم تحضرا كتحضر حزب أردوكان وغول، كان الفضل في ذلك سيعود إليه وإلى قائمته العراقية ومعارضتها النافعة. أما إذا أخفقوا واستمروا في خذلان شعبهم، مثلما خذلوه طيلة السنوات الثماني الماضية، فإن ملايين الناخبين سوف تسقطهم من حسابها وتدخل بيت طاعة الزعيم الجديد وتلتف حوله وترفعه بقوة وتصميم إلى أعلى مراكز السلطة باقتدار.

إن قبوله بفُتات المحاصصة الجديدة شَوه صورة العلمانية في أذهان الجياع الحالمين بمجتمع العدل والمساواة وسلطة العقل والضمير، ودَق مسمارا ضخما ساخنا جدا في نعش الديمقراطية، وجعل الملايين من العراقيين تفقد آخر آمالها في مغادرة النفق المظلم المتمثل في هيمنة تجار السياسة وعَبَدة الكراسي الفاسدين المفسدين، والعياذ بالله.
ومن حقنا أن نسال الدكتور أياد علاوي. أليست العناصر التي بَشرَنا، مؤخرا، بقبوله التحالفَ معها ومشاركتَها في نظام الحصص الجديد، هي ذاتُها العناصر التي أوشك أن يحرق الوطن من أجل إبعادها عن السلطة، ووعدنا بإحالة بعضها إلى القضاء العادل لمحاسبتها على ما ارتكبته من مخالفات وتجاوزات وفساد ذمة وضمير؟

وبماذا يرد على تصريحاته النارية السابقة، من قبيل:
ldquo;نحن نعتقد بأن حكومة المالكي لن تكون قادرة على إجراء مصالحة مع السنة والشيعة والأكراد لأنها قامت على أسس فلسفية طائفية.rdquo;
quot; إن الوضع برمته قائم على الطائفية ومنع المصالحةrdquo;
quot; أن النظام يجب أن يتغير ويجب أن يسود نظام غير طائفيrdquo;.
quot; المالكي جزء من النظام الطائفي الذي يؤثر سلبا على البلاد. لا يمكننا أن نرى تحسنا إذا بقي النظام الطائفي مطبقا فيهاrdquo;.
من مجمل عدد الوزارات التي حظيت بها العراقية، وهي 9، ومنها وزارات غير فاعلة، مقابل 17 وزارة لأحزاب الدين السياسي، وفي مقدمتها التيار الصدري المتطرف، نستطيع الجزم بأن أياد علاوي لن يتمكن من تحقيق وعوده بتغيير طعم النظام وفكره وفلسفته وسلوكه الديكتاتوري المتعصب، وسينصاع لحكم (القوي) في الحكومة، نوري المالكي، ومِن ورائه سطوة أمريكا وصولجان إيران.

فلا هو ولا صالح المطلق (نائب المالكي الجديد) ولا الهاشمي والعيساوي سيتمكنون من حمل أعضاء مجلس محافظة بغداد على إلغاء قراراتهم البائسة الأخيرة القاضية بالتضييق على الحريات، ولا على إجبار أعضاء مجلس محافظة البصرة أو غيرها على تخفيف إجراءاتهم الرجعية المتخلفة، ووقف اعتداءاتهم على أرزاق الناس وحرياتهم وكراماتهم.
ومع ذلك كله، وبالرغم من كل هذه الإحباطات التي أصابنا بها الدكتور أياد علاوي نعود فنتفاءل ونتمنى، بحكم رئاسته لـ (مجلس السيادة الجديد) الذي يشبه إلى حد كبير (مجلس السيادة) في نظام الزعيم عبد الكريم قاسم، إذا ما خرج إلى النور ونجا من محاولات التمطيط والتسويف والتفريغ، أن يمنع وزيرَ دفاعه الجديد، وسيكون من العراقية، من اختلاس مليار دولار أخرى بحجة شراء طائرات عسكرية ثم يتبين فيما بعد أنها طائرات زراعية مستهلكة غير صالحة حتى للزراعة، وأن يمنع وزيرا آخر من شحن صناديق تحمل 19.5 مليار دينار عراقي على متن طائرة صغيرة مستأجرة تقول أوراق رحلتها من بغداد إلى مطار بيروت إنها تنقل ركابا مهمين، فتكتشف السلطات اللبنانية غير ذلك، وأن يمنع ضرب الفلوجة مرة أخرى، والنجف وسامراء.

وقبل أن نغادر هذه الهموم، نعترف مرة أخرى بأن الدكتور أياد علاوي عودنا كثيرا على سهولة انقلابه من موقف إلى نقيضه، في لحظة، ودون مقدمات. ولعل هذا يفسر أسباب الخيبة التي وصل إليها معظم الذين عملوا تحت قيادته، فانشقوا عنه وعليه. ولله في خَلقه شؤون.