لاأعرف ماذا كان يفكر هذا الإنتحاري الذي فجر نفسه في وسط العاصمة السويدية ستوكهولم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يموت والناس متجمهرون حوله محاولين إنقاذه وهم يرددون إنه مازال على قيد الحياة ويتنفس. لم يكن أحد منهم يعلم بإنه إنتحاري، فبتعدوا خوفا ً بعد رؤية قنابل خمس لم تنفجر بعد. لقد أصيب الشعب السويدي بصدمة كبيرة وهم لايجدون تفسيرا ً لما حدث. الكل يتحدث، في الشارع وفي الإعلام وفي كل مكان. فهذه المرة الأولى التي يشهدون بها عملا ً إنتحاريا ً بهذه البشاعة. العملية مخطط لها أن تقتل العشرات أو حتى المئات، فهو كان يحمل أكثر من قنبلة متوجها ً نحو السوق التجاري الرئيسي بعد تفجير سيارة مليئة بالإسطوانات الغازية، وربما فشل في تفجيرها بالوقت المحدد. العبوات كانت مصنعة على الطريقة الهندية الباكستانية ومليئة بالمسامير لإيقاع أكبر قدر ممكن من الضحايا.
الإنتحاري عراقي الجنسية (فربما لم يكن عراقيا ً، لأن هناك الكثير من العرب الذين طلبوا اللجوء بأسماء عراقية، ومما يثير الشك أسم العائلة غير العراقي وأمه الأردنية الجنسية) لا أريد أن أبرء العراقيين ففيهم الكثير من القتلة مما نشهد بالعراق اليوم، لكن الملاحظ أن أغلب الإنتحاريين في العراق هم من العرب. لقد قدم تيمور للسويد بعمر العاشرة أي قبل 18 سنة مع عائلته هربا ً من جحيم الحرب بعد غزو الكويت. ترعرع في السويد وذهب إلى إنكلترا للدراسة على حساب الحكومة السويدية. أتصل هناك ربما بجماعات إسلامية متشددة ليعود بحقيبة تحمل القنابل ورئسا ً أكثر منها خطورة. لقد أحتضنت السويد هذا الشخص وعائلته في وقت ضاقت الأرض على أغلب العراقيين المهجرين في كل دول العالم، وقد كان الضيق أكثر في الدول العربية، ووفروا له الأمان والحرية التي يحلم بها كل إنسان. المجتمع السويدي مجتمع ليس بالمثالي، له سلبياته وإيجابياته، لكنه شعب طيب ومسالم وبعيد عن العنف. السويد لم تدخل في حرب منذ 250 سنة وهي مسالمة وتقف دائما ً على الحياد في القضايا الدولية، إلا في بعض الإستثنائات كموضوع تواجد 500 جندي تحت مظلة الأمم المتحدة ووضيفتهم الرئيسية هي الدعم والمساعدة في بناء المدارس وتحسين النظام الصحي. ورغم هذا، هناك معارضة كبيرة لهذا التواجد مما حدا بالحكومة والمعارضة على الإتفاق على سحب القوات بحلول سنة 2014. إن أجمل شيء بالسويد أن السويديين حكومة وشعبا ً واعون ويعرفون قضايانا العربية ويتعاطفون معها. لم أصادف سويديون كثيرون يحبون أمريكا! الغالبية العظمى مع الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل، ويعرفون أن إسرائيل تقتل بلا رادع. لقد دفع رئيس وزراء السويد ثمن هذه المواقف حياته في الثمانينات. لقد قتل أولف بالما في الشارع وهو بحراسة شخص واحد من أحد المتطرفين ولم يعرف القاتل إلى الآن. الكل يعرف من ورائه! لقد قتلت قبل سنوات ليست بالكثيرة آنا ليند، وزيرة خارجية السويد والمرشحة للوصول لرئاسة الوزراء مستقبلا ً في وسط السوق بطعنات سكين ومعها حرس واحد فقط. لقد قالت هذه المرأة الحديدية لشارون...أنت مجرم حرب... وذلك في إجتماع رسمي لوزراء الخارجية الأوربيين، في وقت عجز فيه قادة العرب بإجمعهم أن يقولوا هذا الشيء بعد قصف غزة. لقد كان السويديون حاضرين في المساعدة بعد أحداث غزة وعلى مراكب السفن لفك الحصار عن غزة أيضا ً.
لايوجد مكان لاتوجد به عنصرية، والسويد بالتأكيد بها عنصرية أيضا ً وإلا لماذا يصل أحد أحزابها القومية المعروف بتشدده وعنصريته ضد المهاجرين إلى البرلمان السويدي؟ لكن العنصرية في السويد لاأحد يستطيع مقارنتها بالعنصرية الموجودة في هولندا وألمانيا أو فرنسا. ولا أحد يستطيع مقارنتها بالعنصرية الموجودة بيننا نحن العرب والمسلمين فيما بيننا. ففي بلد الغربة يتكتل المهاجرون فيما بينهم حسب الطوائف والدول والمحافظات والقوميات وبعضهم يكن العداء لبعض. أو كما وصف أحد المعلقين في إحدى الصحف السويدية وهو يقول...أن العنصريين بالسويد يبدون لطفاء جدا ً مقارنة بالعنصرية الموجودة في بلدان الخليج التي عشت بها وذلك ضد الأجانب من الآسيويين وغيرهم.
لقد سمت المواقع المتشددة التفجير بغزوة ستوكهولم وكأننا نعيش بالقرن الأول الهجري. ماهو النجاح ياترى بأن تكون الغزوة ناجحة؟ هل هو قتل أكبر قدر ممكن من الناس الأبرياء؟ هل هو إحراج السويد في مواقفها السياسية؟ أم هو الدفاع عن الإسلام في بلد مثل السويد؟ لقد فشلت هذه العملية الإرهابية بكل المقاييس، وضحيتها المسلمون في أوربا والسويد قبل السويديين أنفسهم. والمكان الذي خطط أن يكون به التفجير غالبيته من العرب أصحاب البسطات لبيع الورود والسندويشات والهدايا. فبدل أن نكسب الشعوب لقضايانا جعلناهم ينفرون منا وكأننا كلنا إرهابيون. الكل يتحدث عن الإسلام والعرب في كل مكان... هؤلاء البشر البعيدون كل البعد عن قيم الحضارة، يقتلون من يعرفون ومن لايعرفون. نحن وأن كنا أصحاب قضية، لكننا نضيعها بأيدينا بعد أن نجعل كل الناس أعداء لنا.
كلنا مسؤولون، لإن وراء هذا الإنتحاري شبكة كبيرة أهلته نفسيا ً وعقائديا ً، وخلف هذه الشبكة قاعدة ثقافية يمكن أن تحتضنها، ويوجد من يمولها طبعا ً بالمال من كل مكان. ثقافتنا البائسة التي لاتقبل الآخر، ولاتسامح ولاتتسامح حتى مع نفسها. حتى الدين بريء من ثقافتنا التي تحتقر الضعيف والمرأة والأجنبي. ثقافتنا التي تدعو للشقاوة والفروسية الزائفة والشهامة المزيفة في مسلسلاتنا وبرامجنا وحتى أفلام الكارتون المتحركة. تلك التي تجعل من المرء يعيش عالمين متناقضين، تلك التي تجعل المرء يحقد على الآخر لمجرد الإختلاف معه بالرأي. تلك التي تجعل المرء يحقد على نفسه فيكرهها ومن ثم يفجرها.
يقول تيمور عبد الوهاب الإنتحاري الذي فجر نفسه... في كل بيت توجد سكين، وأنا أعلم إنكم تستطيعون أن تفعلوا أكثر من حمل السكين...فأي ثقافة للموت يحمل في رأسه. وأنا أقول في كل منا طاقة للسلام، نحملها ونطفء نار الحقد التي نحملها ضد من نختلف معه، في كل منا حب يمكن أن يستثمره لتوصيل قضايانا للعالم بإجمع. نعم يمكن أن نفعل كل شيء لوحدنا. يمكن أن نتسامح، أن نقبل الآخر، أن نسمع الآخر ونناقشه ونتركه إن لم يقتنع أو ربما نقتنع نحن. علينا أن نحرس أولادنا من الضياع وأموالنا من أن تذهب بيد هؤلاء الذين لايعيرون لمسيحي أو مسلم، سني أو شيعي. نحتاج فقط للشجاعة وبذل القليل من الجهد لنقف وقفة واحدة بمواجه هذا الإرهاب الذي أصابنا كلنا.
في الصباح الباكر، إتصال من أمي...هل أنت بخير ياولدي بعد هذا الإنفجار...ضحكت وقلت لها غريبة هذه الدنيا، فأنا أتصل بكم كلما حدث إنفجار في بغداد. كم هي صغيرة هذه الدنيا وغريبة وموجعة حد البوح.
التعليقات