لقد بات واضحاً للعراقيين، حتى لأولئك الذين يغمضون عيناً ويفتحون أخرى، بأن تشكيل ما يسمى اليوم بالتحالف الوطني، هذا الكيان الهلامي كان الغرض منه قطع الطريق على القائمة العراقية لتشكيل الحكومة بعد أن أثبتت نتائج الإنتخابات أنها القائمة الفائزة.
فبعد إعلان نتائج الإنتخابات مباشرة جرى التشكيك بها من قبل تيار السيد المالكي الذي حل ثانياً، والذي طالب حينها وبهستيريا واضحة بإعادة فرز الأصوات يدوياً، وبعد أن تم له ذلك عِبر ترهيب مفوضية الإنتخابات (طلع نابهم على شونة) كما يقول المثل المصري، وتبين بأن عملية العد والفرز سليمة ونتائجها صحيحة، وإن كان هنالك من مَغبون فيها فهي كتلة العراقية، وهو ما كلف العراقيين أسابيع من إنعدام الخدمات والإستقرار لالشيء سوى أن السيد المالكي وبطانته لايقبلون بالخسارة ولايقرون بها لأنهم لايستوعبوها، وهو أمر طبيعي بالنسبة لهم كونهم خريجي مدرسة إسلام سياسي يمثلها حزب الدعوة، مدرسة ترى أن أتباعها نخبة مختارة يمتلكون الحق المطلق والحقيقة الكاملة والتخويل الإلهي لحكم البشر، لذا لاتستوعب رفض الناس لها وتفضيلها لأناس وساسة آخرين عليهم تراهم هذه النخبة مارقين (ليسو مُوامنة).
في نفس الوقت، ولكي لايُضَيّع السيد المالكي وقته، لجأ وبدهاء مكتسب من جيرانه لتوجيه سؤال الى المحكمة الإتحادية حول تفسير مصطلح الكتلة الأكبر التي من حقها تشكيل الحكومة، (هل هي الكتلة التي تتشكل قبل الإنتخابات وتفوز بها بحصولها على أعلى الأصوات،أم انها الكتلة التي تتشكل بعد الإنتخابات من مجموعة من الكتل الفائزة؟)، وجاء جواب المحكمة الإتحادية السلبي بأن التفسير الثاني هو الصحيح سريعاً ومخيباً لآمال العراقيين، ولكن منعشاً لآمال السيد المالكي وبطانته. هنا بدأت المحاولة الثانية للمالكي والتي لعبها بدهاء تفتقر له العراقية، بالسعي لتشكيل تحالف مصطنع بينه وبين الإئتلاف الوطني بطريقة مضحكة وعلى عَجَل، فقد أعلِنَ عن هذا التحالف أول الأمر إعلامياً فقط قبل بدء المباحثات بين الطرفين،بعد قيام أحدهما وعلى الأرجح جماعة دولة القانون بالإتصال بالطرف الأخر قائلين لهم (لحكو خلي ننسى مشاكلنا ونتحالف لأن حتروح مِن إيدنة بعد ما أخذناها بطلعان الروح)، فهذا هو منطق دولة القانون وزعيمها الأوحد الذي عبر عنه مَرةً علناً وأمام شاشات التلفاز فكيف بالغرف المغلقة؟. ثم تبين بأن الطرفين لم يتفقوا على شيء، لا على رئيس الوزراء ولا الآلية التي بموجبها يتم إختياره، وفي الوقت الذي قدّم الإئتلاف الوطني 3 مُرشّحين للمنصب، أصرت دولة القانون على مرشحها الوحيد الأبدي والمطلق الذي لابديل عنه وهو السيد المالكي قائدها الضرورة وهبة الله في الزمن الصعب، وإنقسم التحالف بين مؤيد لترشيح المالكي ورافض له،ولعبت الضغوط الدولية وبالذات من جمهورية ولاية الفقيه على بعض القوى والتيارات داخل الإئتلاف الوطني دوراً كبيراً في ترجيح كفة المالكي على منافسيه داخل التحالف، خصوصاً بعد أن تبيّن بأن الرجل لايَقبل النقاش في الموضوع وهو مُصِرعلى ترشيح نفسه وشخصه فقط، ويريد من التحالف المذكور أن يكون حصانه لدخول طروادة ثانيةّ وللإحتفاظ بالمنصب وإبعاد الدكتور أياد علاوي عنه وهنا كان بيت القصيد.
طبعاً رافقت هذه الإجرءاات العملية التي قام بها السيد المالكي للحفاظ على منصبه إجرائات نظرية موازية لها، تمثلت في سلسلة طويلة يتآكلها الصدأ من الدعايات السخيفة المغرضة التي أثارتها جوقة دولة القانون وطباليها من بعض الكتبة ضد الدكتور أياد علاوي والعراقية، فمرة يروجون بأنها قائمة سُنّية، ومرة بأنها تريد إعادة البعث، وأخيراً بعد أن غادرهم الحياء الى الأبد روجوا بأن الدكتور أياد علاوي ليس من أبوين عراقيين بإعتبار أن عائلة والدته من أصول لبنانية رغم أنها عائلة متأصلة الجذور بالعراق وقد جائت إليه مع الملك المؤسس فيصل الأول، على عكس بعض أعضاء إئتلاف دولة القانون الذين لايزالون محتفظين بجوازاتهم الإيرانية. فأي زمان أغبر هذا الذي يعيشه العراق، والذي بات فيه أنتماء المرء العربي عيباً و سُبّة فيما بات أنتماؤه الفارسي شرفاً و رفعة!
هنا لابد من الإشارة الى أن تفسير مصطلح (الكتلة الأكبر) الذي أفتت به المحكمة الإتحادية، والتي ثبت بالدليل القاطع تسييسها وتحيزها لجهة سياسية على حساب أخرى هو تفسير مضحك وبعيد عن المنطق، لأنه لو كان صحيحاً وقانونياً كما يقول الجماعة فما نفع الإنتخابات اذاً؟ فبهذه الحالة ومهما كانت نتائج الإنتخابات لاقيمة للكتلة التي تفوز، إذ يمكن لعشرة كُتل صغيرة أن تجتمع لتشكل كتلة أكبر من الكتلة الفائزة، وتصبح هي سيدة الموقف. إن ما يؤسف له هو أن نرى مثل هذه الأمور تمُرر ببساطة على بعض العراقيين الذين لايزالون مخدوعين بخطاب المالكي دون أن يتخذوا موقفاً مبدئياً واضحاً تجاهها، و أقصد طبعاً الطيبين منهم وليس المنتفعين والدخلاء والطارئين وكَتَبة(تالي وكت) الذين يُطبّلون له مِن المَسكونين بعُقد البعث والطائفية والنقص الإجتماعي الطبقي والتعليمي،هنالك اليوم أناس ديمقراطيون مثقفون واعون يدافعون عن التفسير الإنقلابي للمحكمة بدلاً من أن يتخذوا منه ومنها موقفاً مبدئياً واضحاً يرفض تسييسها وتشويهها لدعائم الديمقراطية ممثلة بالدستور ونتائج الإنتخابات التي طالما حلموا بتطبيقها في العراق، ويقولون بأن علينا الإقرار به بإعتباره صادر من المحكمة الإتحادية، وكأننا نعيش في السويد أو فنلندا وأن المحكمة فعلاً مستقلة بقراراتها!
إن مافعله إئتلاف دولة القانون منذ ظهور نتائج الإنتخابات لم يكن سوى تعَنّت واضح سبق وأن حذرنا منه لتيار إسلام سياسي شمولي لايريد إفلات السلطة التي كانت له حلماً وباتت بيده في غفلة من زمن سادَ فيه الطارئون على الأصلاء، وقد نجح بإمتياز في تجديد الولاية لزعيمه المالكي وإبقائه وتثبيته لدورة ثانية رئيساً للوزراء رغم أنف الشعب العراقي وقواه الوطنية التي صوت لها، وعلى أنقاض صناديق الإقتراع التي زحف إليها العراقيون لتغييره وليس لإبقائه. لذا فقد كنت على قناعة ولا أزال بأن السيد المالكي وفي حال عدم نجاح إنقلابه الأبيض متمثلاً بتشكيل التحالف المذكور، كان مستعداً ولايزال للقيام بإنقلاب أسود وإستخدام القوة كخيار للحفاظ على الكرسي والبقاء بالسلطة، فما يردده هو والمقربون منه بين حين وآخر من أن هنالك معلومات عن نية البعض القيام بإنقلاب عسكري،كما في قضية الزركة مثلاً، ماهو إلا كلام فارغ عار عن الصحة الهدف منه إيجاد مبرر دائم لإستخدام الجيش والشرطة متى ما لزم الأمر. إن قيام البعض بإنقلاب في الظروف الحالية أمر غير موضوعي نعلم جيداً بإستحالته مع سيطرة المالكي المطلقة على الأجهزة الأمنية ووجود القوات الأمريكية على أرض العراق والقوات الإيرانية تحت أرضه، واللتان إتفقتا(عَجَبي)على دعم المالكي،وبالتالي كيف يمكن حتى لسوبرمان ومعه باتمان ومعهم سبايدرمان مضافاً إليهم غرندايزر وخماسي والرجل الحديدي على القيام بإنقلاب!!
لقد نجح السيد المالكي في إنقلابه الأبيض على العميلة السياسية العراقية ونتائج إنتخاباتها الديمقراطية الدستورية بجدارة عُرفت عن أغلب أحزاب الإسلام السياسي التي تظهر دائماً ما لاتُبطن،وتتقن فنون اللّف والدوران والضرب من تحت الحزام للوصول الى أهدافها بميكافيلية واضحة يحسدها عليها حتى ميكافيلي نفسه، ولو قدر له البقاء لأربع سنوات قادمة رئيساً لوزراء العراق، ولم يُصار الى سَحب الثقة من حكومته من قبل البرلمان في القريب العاجل، سيكون من الصعب إزاحته عن هذا المنصب في المستقبل القريب، و سيلجأ في المستقبل للإحتفاظ به بشتى السبل ومختلف الأساليب الإنقلابية الأبيض منها أو الأسود، سواء عن طريق التلاعب والتزوير ولي الأذرع كما شهدنا في الأشهر السابقة، أو عن الطريق القوة والقمع و السلاح عبر القيام بإنقلاب عسكري وإستخدام بعض القوى الأمنية والعسكرية التي هي اليوم طوع بنانه و ستصبح مستقبلاً خاتماً في إصبعه إذا بقي قائداً عاماً للقوات المسلحة لأربع سنوات قادمة. ولإثبات النوايا السيئة التي تحملها وتبطنها دولة القانون، نكتفي بالإشارة الى التصريح المثير للقشعريرة الذي أدلى به قبل أيام المدعو سامي العسكري القيادي في حزب الدعوة ودولة القانون والمقرب من المالكي لصحيفة الشرق الأوسط، حيث قال (يرى أغلب الساسة الشيعة تقريبا القائمة العراقية كائتلاف سني ويشعرون أنهم غير مستعدين بعد للسماح لائتلاف سني بتشكيل الحكومة) وهو تصريح خطير يعكس طبيعة العقلية البائسة للشِلّة التي تتحكم بمقدرات العراق وشعبه، ويعطي إنطباعاً واضحاً عن الطريقة التي تدار بها الأمور من قبل شِلّة ترى العراق ضيعةً وإرثاً خلفه لها أجدادها، يقرّرون مصيره كما يريدون ويرسمون صورته كما يشائون ويوجّهون أحداثه بما يخدم أهدافهم ومصالحهم بعيداً عن القانون والدستور والإنتخابات.
في الختام لابد من كلمة نقولها للتأريخ بحق الدكتور أياد علاوي، فمنذ عام 1958 وحتى اليوم لم يشهد العراق إنتقالاً سلمياً للسلطة سوى في عهده يوم كان رئيساً لوزراء الحكومة العراقية المؤقتة التي تلت مجلس الحكم الإنتقالي الذي شُكِّل بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في2003، يومها نجح الدكتور علاوي بإجراء الإنتخابات ولم يستخدم سلطاته كرئيس وزراء لإرهاب الناس والقوى السياسية المنافسة كما فعل خلفائه بالمنصب، وسلم السلطة لمن تلاه دون إثارة للمشاكل وإفتعال للأزمات كما فعل الجعفري ومن بعده المالكي، فالرجل جاء الى السلطة دون إنقلاب برضى وتوافق المجتمع الدولي والقوى السياسية العراقية، وسلم السلطة لمن تلاه دون أن ينقلب عليه أحد لأنه لم يتشبث ويطمع بها ويرفض تسليمها لمن جاء من بعده، فعبد الكريم قاسم جاء للسلطة بإنقلاب أسود ولم يُسَلّمها سوى بإنقلاب أسود،وعبد السلام عارف جاء للسلطة بإنقلاب أسود وغادرها ميتاً بما يشبه الإنقلاب الأسود في حادثة الطائرة التي لاتزال لغزاً لم يُحَل، خلفه أخوه عبد الرحمن عارف بإنقلاب أبيض لعسكر القوميين الذين دعموا تولّيَه للسلطة على حساب الأستاذ عبد الرحمن البزاز الذي كان خيار المدنيين وليغادرها بإنقلاب رمادي لُوِّح فيه بالسلاح كوسيلة لكن وكما قيل لم تطلق رصاصة واحدة لأنه رحمه الله كان زاهداً بالسلطة، ثم تولاها البكر بذات الإنقلاب وغادرها مُكرَهاً بإنقلاب أسود لساعده الأيمن ونائبه صدام عليه ذهب ضحيته البكر ومجموعة بارزة و كبيرة من قيادات حزب البعث بحجة وجود مؤامرة مزعومة لغرض إخلاء الساحة لصدام ورهطه والذي صرح بأنه لن يغادر السلطة(إلا والعراق تراب)وفعلاً لم يغادرها سوى بالقوة وعلى يد تحالف دولي قادته أكبر واقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا إستثنينا فترة تولي الدكتور أياد علاوي لرئاسة الوزراء الذي كما قلنا سابقاً جاء إليها وغادرها بدون إنقلاب، نجد بأن من خلفوه أعادونا الى زمن الإنقلابات، فالجعفري جاء للسلطة بإنقلاب أبيض على روح الديمقراطية ووسائلها المتمثلة بالإنتخابات يوم أستغل ومن معه فتاوى المراجع الدينية والشعارات المذهبية لكسب اصوات العوام بالإنتخابات، بعدها رفض تسليم السلطة مدعياً(أن السماء قد إختارته لحكم العراق) ويريد إكمال مسيرته التأريخية التي تمثلت بالحرب الأهلية والمعتقلات السرية ولم يُسَلّم السلطة سوى بإنقلاب أبيض قاده ضده ساعده الأيمن ونائبه المالكي الذي أزاحه وحل محله برئاسة الحزب ومجلس الوزراء بعد كسب حلفائه بالإئتلاف الوطني الى جانبه، وهاهو المالكي الذي جاء الى السلطة بإنقلاب أبيض يعلن بأنه (مَراح ينطيهة لأن ميكدر واحد ياخذهة منة بعد)، وقد رأينا ترجمة هذا الكلام العملية في ماحدث ويحدث على الساحة السياسية العراقية، فالرجل رفض تسليم السلطة حتى بعد أن أظهرت نتائج الإنتخابات خسارته وفوز قائمة أخرى،وعمد للقيام بإنقلاب أبيض عبر تشكيل ما سُمّيَ بالتحالف الوطني موضوع المقال. ولكن يبقى السؤال المهم هو.. هل سيكتفي المالكي بهذا الإنقلاب الأبيض؟ أم سنصحوا يوماً على أصوات طلقات إنقلاب أسود ربما سيقوم به ليخلي له الساحة وليصبح سيدها بلا منازع؟. هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة وأحداثها.
[email protected]
التعليقات