يمكن تقسيم المرجعيات الدينية إلى قسمين الأول الرشيدة والصالحة والثانى هى غير الرشيدة وغير الصالحة المكرسة للجهل والتخلف وهذا ما يعتقد به المصلحون والواعون حتى من المرجعيات نفسها ويكشفه الواقع والعقل والتجربة. فقد كان محمد باقر الصدر يمثل المرجعية الرشيدة الواعية والنقلة النوعية في الحوزة العلمية حيث انه كان مجددا في مختلف أبعاد الحوزة لمواكبة العصر وتحدياته، بدأ بكتابة موسوعة من الكتب التي لم يعتد كتاباتها في الحوزة مثلا في الفلسفة التي حرمها البعض لكنه كتب (فلسفتنا)، وفي الاقتصاد ألف (اقتصادنا) والبنوك (البنك اللاربوي في الإسلام)، ونقلة نوعية في الاستقراء كتب (الأسس المنطقية للاستقراء)، كما ألف في التاريخ مثل (فدك في التاريخ) وفي التفسير (التفسير الموضوعي للقرآن) كما جدد كتب الحوزة وتطويرها حتى فى كتبها الدراسية مثل تأليفه سلسلة حلقاته الثلاث في علم الأصول ورسالته العملية، إذن شخص عدم مواكبة الكتب القديمة للحاجات المعاصرة وبدأ بملئها بما يعتقده من فكر وأسلوب معاصر يحقق الغرض لاستيعابه المعرفي وحضوره الاجتماعي ومواكبته للنتاج البشري بينما المرجعيات غير الرشيدة بعيدة كل البعد عن كل تلك الحاجات فلم نجد لها نتاجا فكريا لا فى الفكر أو الفلسفة أو الإقتصاد أو البنوك أو حتى تجديد الفكر الأصولى أو الفقهى أو العقائدى أو التاريخى بل أشبه بالتكرار الكلاسيكى للفقه القديم فى أسلوبه ومواضيعه وطرحه وهمومه فيقول الصدر (الأمة اليوم غير الأمة بالأمس في مستواها الفكري، في مستواها الأخلاقي، في علائقها الاجتماعية، في أوضاعها الاقتصادية، في كل ظروفها. الأمة اليوم غير الأمة بالأمس. وحيث إن الأمة اليوم غير الأمة بالأمس لا يجوز لك أن تتعامل مع الأمة اليوم كما تتعامل مع الأمة بالأمس لهذا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف والتغيرات والتصورات التي توجد في الأمة. هذه التصورات والتغيرات التي توجد في الأمة تحدد لنا أساليب العمل، وليس بالإمكان أن يكون هناك أسلوب واحد يصدق على الأمة اليوم وعلى الأمة بالأمس وعلى الأمة غداً.
فحينئذ من الطبيعي أن لا نُوفق في العمل لأننا نتعامل مع أمة ماتت، والأمة الحية لا نتعامل معها، فمهما يكن لنا من تأثير سوف يكون هذا التأثير سلبياً، لأن موضوع العمل غير موجود في الخارج، موضوع العمل ميت، وما هو الموجود في الخارج لا نتعامل معه). ومن السهولة المقارنة حتى البسيطة بين الرسالة العملية (الفتاوى الواضحة) للصدر مع رسائل غيره كمنهاج الصالحين أو العروة الوثقى أو وسيلة النجاة وانشغالها بأبحاث العبيد والإماء والبئر والرطل...فضلا عما هو أكبر.

حاول الصدر أن يصلح المرجعية الدينية من الداخل فعانى وجاهد وصبر فلما يئس كما يقول فى مذكراته، قرر أن يطرح فى أواخر حياته أطروحة رائعة وجريئة وشجاعة فى اجتياز الممنوع وكتب (المرجعية الرشيدة والصالحة) ليطرحها على الناس جميعا وبصوت عال علنا حيث يحاسب الناس المرجع ويحول المرجعية من الفردية والذاتية والأنانية والمصلحية إلى مؤسسة مسؤولة تهتم بالأمة ومشاكلها وهمومها واحتياجاتها وهو يضع الخطوط الهادفة فى حركتها قائلا (إن أهم ما يميز المرجعية الصالحة تبنيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محددة لهذه الأهداف، فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي، تتصرف دائماً على أساس تلك الأهداف) ناقدا المرجعيات غير الرشيدة وغير الصالحة المطروحة فى الساحة والتى لاتملك رؤية واسعة بل تتصرف عشوائيا وبنفسية فردية جزئية إذ يقول (تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة) ثم يقول
(وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كل الأوضاع التي يمتد إليها تأثيره ونفوذه).

فعلا قام الصدر بمشاريع عديدة منها مؤلفاته المختلفة ونشاطاته فى مثل كلية أصول الدين وبعض الكتب كعلوم القرآن والإقتصاد وفى مجلة (رسالة الإسلام) و مجلة الأضواء ونشاطاته الإجتماعية والسياسية ولقاءاته اليومية بالناس ومشاكلهم خصوصا مجلسه اليومى العام والمفتوح لمختلف طبقات المجتمع خاصة الشباب الجامعى وهو يحاضر فى (المحنة) (الحكم) (النبوة) (دور أهل البيت الرسالى)... وهو يعالج الأزمات المعاصرة بعكس انزواء المرجعيات الفارسية التى عانى منها وحاربته وانزوائها عن المجتمع ومعاناته. ومن هنا يعتقد الصدر مشكلة النظرة الفردية للفقيه والبعد عن الرؤية والنظرة الإجتماعية كما سماها ثم يتحدث عن الإفلاس فى حوزة النجف فيقول ( لماذا تعيش الحوزة العلمية في هذا البلد - أي العراق - مئات السنين ثم بعد هذا يظهر إفلاسها في نفس البلد الذي تعيش فيه، وإذا بأبناء البلد أو بعض أبناء هذا البلد يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين والمتربصين بهذه الحوزة...)..

ويضع الصدر كثيرا من الأهداف المختلفة حيث يشترط فى المرجعية الرشيدة الإيمان بها بداية ووضوح هذه الأهداف للمرجعية وتبنيها وإن كان هو الذي يحدد صلاح المرجعية ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها العامة ونظراتها إلى الأمور وطبيعة تعاملها مع الأمة، وممارسة كثير من الأمور قبل تصديها للمرجعية بل ومعرفة الأمة لها بشكل كبير وواضح. ولقد كان الصدر معروفا قبل تصديه للمرجعية فى كتابات كثيرة وأعمال سياسية وإجتماعية كبيرة بينما الكثير من المرجعيات غير الرشيدة لاتمتلك فكرا ولاحركة إجتماعية أو سياسية ومعزولة عن الأمة وآلامها ومعاناتها وليست معروفة أصلا بأى نتاج فكرى أو عملى ثم تظهر صدفة وفجأة للساحة بعد موت المرجعيات السابقة عندما يكون البحث عن مرجع حى ليجيز وكالاتهم واستلامهم الحقوق الشرعية فالميت قد تموت حتى فتاواه معه إلا إذا أجازها الحى بعده.

كما ميز الصدر بين العقلية الرياضية والعقلية الاجتماعية ليقول (العقلية الاجتماعية تقوم على أساس الحدس والتجربة ومن الإطلاع على ظروف العالم وملابساته فيجب أن نفتح أعيننا على العالم) أي فيما يحتاجه العالم من أفكار ووعي ومعرفة

ومن أهم ماطرحه الصدر هو اعتماد الكفاءة والتخصص كأساس للمرجعية الرشيدة جيث يقول (إيجاد جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على أساس الكفاءة والتخصص وتقسيم العمل واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحددة.) فى قبل المرجعيات غير الرشيدة التى تعيش العفوية والصدفة وتحكمها الحاشية من غير الأكفاء والإختصاصيين بل الصدف والرحم والحاجات المؤقتة الآنية وبعقلية تجزيئية ليس لها أهداف واضحة أو محددة بل ذهنية فردية آنية تجزيئية حيث يقول مثلا
(ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً عن الحاشية التي تعبر عن جهاز عفوي مرتجل يتكون من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعية لتغطية الحاجات الآنية بذهنية تجزيئية وبدون أهداف محددة واضحة) وفعلا الحواشى والأبن والصهر يتحكمون فى مصير الأمة ولايمتلكون كفاءة ولاتخصصا ولانزاهة ولاورعا فقد يشترك فى أكبر فساد و سرقة للخمس بالملايين لتبقى ذخرا له بعد وفاة المرجع (المقدس) كما هو حاصل اليوم فيما يسمى المرجعية العليا وهو اصطلاح جديد نشأ فى عوامل سياسية لدعم مرجعية محسن الحكيم آنذاك.

لذلك يقترح الصدر فى المرجعية الرشيدة لجان عديدة خصوصا اللجنة المالية حيث تحتاج إلى تنظيم وضبط فى الصادرة والواردة فيقول (اللجنة المالية التي تعنى بتسجيل المال وضبط موارده) وهى من أهم الإشكالات فى الخمس وما سمى بالحقوق الشرعية وأين تذهب هذه الأموال الطائلة جدا؟؟!!

والعجيب الغريب فى المرجعيات غير الرشيدة عدم وجود صادرة ولا واردة فيما يحصل عليه حاشية المرجع وأرحامه بالملايين رغم طردها للفقراء والمساكين وهرولتها وراء التجار لتكديس الأخماس وجمعها. ولادليل على ضرورة إجازة الفقيه كما قال محمد جواد مغنية (إستحسان إذن الحاكم الشرعى لادليل عليه شرعا) وصرح بها بعض المرجعيات الرشيدة.

ومن أغرب فتاوى المرجعيات الفارسية غير الرشيدة هى الشأنية فى باب الخمس التى بررت للكثير من حاشيته استغلال الخمس لهم على أساس أن من شأنهم كل ذلك التبذير والإسراف وتبرير ذلك فى جعل أنفسهم طبقة عالية فوق البشر تسوغ لهم سرقة المال العام وحتى الحقوق الشرعية والأخماس فى حاشية المرجع وأرحامه ووكلائه الخاصين خلافا لسيرة الرسول والأولياء والصالحين.

ويقول مرتضى مطهرى (مما يدعو للأسف أن الناس يرون بأم أعينهم ما يقوم به أمناء بعض المراجع الكبار وأحفادهم والمقربين إليهم من حياة بذخ وفوضى وتبذير لأموال المسلمين...)

كما يذكر محمد حسين كاشف الغطاء من تحول أولاد المرجع الى الشيوعية والتيارات الأخرى ودخولها فى عمق النجف وقم وعبر عنها البعض بإفلاس الحوزات وأرجعها البعض الآخر إلى تهافت المرجع بين القول والعمل وهو يرى سلوكه فى البيت يناقض نصائحه للناس وعندما يعترض عليه إبنه يقول(تلك الموعظة لعوام الناس ولاتشملنا فمن شأننا الترف). وقد نجد امبراطورية الصهر فى الخليج العربى وأوربا وأمريكا كأملاك فردية باسمه شخصيا نعم ربما بعض المشاريع فى إيران كالمستشفيات والمدارس والبيوت والمؤسسات لكنها لاتقوم بشئ من ذلك فى العراق الذى تعيش فيه ومن خيراته رغم حاجته الماسة وفقر معظم شعبه مما يثير تساؤلا فى تحول أموال المسلمين إلى أملاك خاصة لصهر المرجعية ووكيلها حتى بعد وفاته مما يطرحه البعض بالأرقام الكثيرة.

لقد أثار طرح الصدر (المرجعية الرشيدة والصالحة) زلزالا فى النجف وحملة واسعة ضده من حاشية المرجعيات غير الرشيدة خصوصا الأرحام وهى بوابة المرجعية وممثليتها وعينها ولسانها إلى درجة اتهام الصدر بالعمالة والدجل والوهابية وسمى بالسطل وإذا دخل المجلس حاولوا إهانته حتى يجلس عند الأحذية شماتة وحسدا وقد كتب فى ذكرياته ومحنته ما يكشف القناع عن وجههم الذى تظاهر بالتقدس والزهد والورع وهم أحرص الناس على الدنيا وأشدهم محاربة للحق ورجاله.

لذلك كان بعض رجالات الحوزة يكتبون التقارير للنظام العراقى ويحرضونه ضد الصدر حتى قال بعض المراجع (قتلته المرجعيات الفارسية غير الرشيدة) وقد بعث النظام آنذاك رجل الدين المقدس ليقول للصدر (إننا نعلم أن الحجز مسرحية دبرها لك البعثيون لتمثل دور البطل فيها لإعطائك حجما كبيرا فى الأمة ونحن نعلم عمالتك لأمريكا ولن تنفعك هذه المسرحية) وغيره من رجال الدين (المقدسين) فبكى الصدر كثيرا وهو يردد (وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند) ثم قبض على لحيته وهو يبكى قائلا (ويتهمنى المقدسون بالعمالة لأمريكا!!)

كما كان لدور بعضهم فى العراق كما قال له فاضل البراك مدير الأمن (يمكننى إتلاف التقارير التى تصلنى ولكن لايمكننى فيما يصل للقيادة مباشرة من قبل رجالات دين فى النجف...) ثم قدم له نماذج من رسائلهم، لذلك يقول الصدر فى إحدى رسائله (لقد كان بعدك أنباء وهنبثة وكلام وضجيج وحملات متعددة جندت كلها ضد صاحبك _أى ضدى_ بغية تحطيمه... كثيرا من التهم والأمور العجيبة...) (حتى كان جملة ممن يسميهم المجتمع الآخوندى مقدسين أو وجهاء لايتورعون عن إلصاق التهم...)

فضلا عن إيران وأجهزتها المختلفة وهى لاتعترف به فقيها مجتهدا فقد أعلنت بالإذاعة رسائل الصدر لإيران آنذاك نتيجة مراسلات حساسة مما كان عاملا مهما فى قتله فضلا عن حسد البعض للصدر وتمنى موته لتخلو الساحة لهم وهو الذى دعاهم لتوزيع الحلوى فرحا بموته. وهنا يطرح الدور السياسى والإجتماعى للمرجعية وتعاملها مع الواقع والأزمات رغم المطبلين من السياسيين المنتفعين والحاشية المنتفخة بأموال الشعب المحروم والحقوق الشرعية.

من أهم ميزات الصدر الأول هي إخلاصه وزهده وتطابق مبادئه مع سلوكه في تقواه وتطليقه الدنيا ورفضه المغريات التي عرضت عليه فلم يقبل أن يشتري بيتا أو يركب سيارة راقية له أو لأرحامه وقد ترك الدنيا نقيا طاهرا دون ان يخلف لأولاده او اصهاره شيئا من حطام الدنيا حتى يعود الى الله بالعمل الصالح الخالص.

وهنا نستذكر تلميذه الصدر الثانى القائل (المهم فى المرجع هو الإتجاه نحو العدالة الإجتماعية وإنصاف الناس من نفسه ولكن الأنانية فى المرجعية هى الغالبة جيلا بعد جيل..إتبعوا شخصا يبذل النفس والنفيس فى سبيل الدين..هنالك اتجاهان فى المرجعية الناطقة والساكتة ولاعذر للساكتة سوى الخوف، إنه صمت القبور.. لقد عرف الناس أن الإسلوب القديم قائم على القصور والتقصير وإذا كثر الفساد فى المجتمع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولكن الواقع أن أهم الأمور عندهم قبض الحقوق التى يجب أن تصرف لقضاء حاجات المحتاجين ولكنهم لايصرفونها كذلك..)

والغريب هو سيطرة المرجعيات الفارسية غير الرشيدة على حوزات العراق رغم مؤهلات المرجعيات الرشيدة العراقية كالصدرين الأول والثانى وهو ما يحتم قراءة اطروحتيهما بعمق والمقارنة بين هذين النوعين ودراسة نشوئهما ثم السؤال هل يعقل تقليد المرجعية غير الرشيدة وغير الصالحة.