لقد جاء شهر محرم الحرام، وفي هذا الشهر تصادف مناسبة ذكرى إستشهاد الإمام الحسين. فهو موسم العزاء على الإمام المقتول ظلما ً بأرض كربلاء، حيث أستعد أهل المواكب الحسينة وشيوخ المنابر وشعراء القصائد والرواديد (الذين يقرئون القصائد الحسينية) بشحذ هممهم بتنقية اصواتهم وإختيار الأماكن المناسبة لإلقاء المحاضرات للقراءة والإنشاد فيها. حيث تتم الصفقات بين أصحاب العزاء، وأغلبهم من التجار وأصحاب الحسينيات، وبين الشيوخ والرواديد لحجزهم مسبقا ً. من يملك صوتا ً جميلا ً أومن يستطيع أن يؤثر أكثر يكون بالتأكيد سعره أكبر ويحصل على إمتيازات أكثر. أما من كان معروفا ً ومشهورا ً فهذا من النادر حجزه وسعره يكون عاليا ً حيث يصعب على الكثير من متوسطي الحال دفع أجرته. بالتأكيد هذا لايشمل الكل، لكنها ظاهرة أصبحت طبيعية وتستحق التأمل.

لقد صدمت قبل سنوات كثيرة عندما كنت جالسا ً مع أحد أصحاب المجالس وهو يحدث أحد السادة المعممين عن تسعيرته. فقد قال له صاحب العزاء لاأملك هذا المبلغ، إنه كثير، فرد عليه السيد المعمم إن فلان دفع أكثر. وبعد حين إكتشفت بأن أغلب الشيوخ والرواديد والشعراء لهم تسعيراتهم حالهم حال المطربين في عقد الصفقات مع منظمي الحفلات. وفي مرة ثانية طلب أحدهم من أحد الشيوخ المعروفين إلقاء المحاضرات من على منبر الجامع فرد الشيخ كم ستدفع، فقال له الرجل أنا لا أدفع، إن كنت تقرأ للحسين فأجرك على الله. بعدها لم ير ذلك الرجل وجه الشيخ أبدا ً. لقد علمت بعدها إنها تجارة يشترك بها الجميع، بعلم أوغير علم. فهناك الشيخ والرادود والشاعر والتاجر وصاحب المنبر وصاحب الموكب وصاحب الحسينية، كل له أجره. منهم من يأخذ إجره كاش، ومنهم من يبحث عن سمعة وصيت بين الناس خاصة من أصحاب المواكب. أما جارنا الذي تصم أذننا صوت مكبرات الصوت من بيته والتي لاترحم مريض ولا صغير ولا كبير، ولا حتى حقوق الجيرة فالله يغفر له. والأدهى من ذلك أن الأسعار معروفة والمستويات مختلفة. ومن الشيوخ من يريد طعاما ً من نوع معين أو إمتيازات خاصة على مدى أيام العزاء ومنهم من يفرض تذاكر السفر في الرحلات البعيدة، حيث يهيء له السكن وتغدق عليه الأطعمة بما لذ وطاب.

وفي مرة ثالثة، كنت جالسا ً في أحد الحسينيات منذ سنين، حيث تحدث السيد من على المنبر عن التضحية كدرس من دروس الإمام الحسين. ومن يسمع هذا السيد في كلامه عن التضحية سوف لايبخل بالغالي والنفيس إلا وقد بذله في سبيل الله. وبعد أن نزل من على المنبر، دنوت منه وتحدثت معه، قلت له سيدنا بارك الله فيك، لقد أبليت بلاء ً حسنا ً، لقد وفيت وكفيت في كلامك عن التضحية، لكن عندي سؤال! قال لي، سل! قلت له عندما يتحدث الإنسان عن شيء ما فضلا ً عن حديثه عن قيم ومبادئ أخلاقية، أليس من الأولى أن يقوم هو أولا ً بتطبيق ما يدعي به كما فعل الإمام الحسين! دهش السيد من كلامي ورد قائلا ً، ماذا تقصد! قلت له كم أخذت للحضور هنا وقراءة الموعظة؟ قال تقصد من المال! قلت نعم. قال لم أطلب مالا ً. قلت له إن أعطوك بعنوان الهدية هل ستأخذ؟ قال نعم فهذا مسموح به وصرح به مراجعنا فلا غبار على ذلك. قلت له إن لم يعطوك شيء هل ستأتي مرة ثانية؟ ظل يراوغ في الكلام وتنصل من الجواب فلم أخذ منه حقا ً ولا باطلا ً. قال هذا حق مقابل تعب ومجهود. قلت له سيدنا، إن كان درس أو محاضرة علمية، فخذ أجرك. لكن أنت تلقي موعظة أخلاقية والأخلاق ليست فقط كلمات، أليس أولى بك أن تضحي أنت أولا ً بإجرك فصدقني حينها ستدخل كلماتك القلوب بلا حواجز أو موانع. الأخلاق لاتباع بالمال، ومن يُنظُر بالأخلاق لايمكن أن يوصل مايريد إن أخذ أجرا ً على مايقول. أتعلم من أين تأتي الأموال سيدنا؟ قال من أين! قلت له من هؤلاء البسطاء الجالسين تحت منبرك وهم عمال يكدحون عشر ساعات يوميا ً من أجل تحصيل لقمة العيش.

لقد كان منبر الإمام الحسين منارة للعلم تهتز منه عروش الظالمين في أزمان مختلفة. حيث تدخل الانظمة الغاشمة حالة الخطر عند حلول شهر محرم. وتنشر عيونها (العين أسم رجل المخابرات في عصرنا هذا) ورجال أمنها بين الناس لرصد مايقول الشيخ من على المنبر حيث ينتقد الظلم ويحث على الإصلاح كما فعل الإمام الحسين. وفي عصرنا هذا، تحول المنبر إلى تجارة تديرها مؤسسات وتدعمها مرجعيات لكسب الأموال وتركيز السلطة بيد أصحاب تلك المؤسسات بعيدا ً عن النقد. فلامجال للنقد عندما يرتبط الشيء بإسم الإمام الحسين حيث يصير كل شيء مقدسا ً وممنوع اللمس. والأدهى من ذلك تجد لتلك التجارة أصول عند مراجع الدين الكبار بعنوان الهدية والإكرامية.. فتحولت تلك الهدية والإكرامية لتجارة كبيرة يرتع بها الصغير والكبير. وعلى العكس من باقي المراجع فقد منع السيد محمد باقر الصدر وكلائه من أخذ حتى الهدايا من الناس وقال لهم ماتحتاجون اليه سأوفره لكم. إن الأجر أو الهدية أو الإكرامية جعلت الكثيرين ينسون قضية الإمام الحسين الرئيسية وهي صموده ورفضه للظلم وتثبيت معنى الحرية والسعي من أجل الإصلاح فهم لايستطيعون الحديث عنها كثيرا ً وهم مدفوعي الأجر. فركزوا على المأساة في قضية عاشوراء، أي الجزء العاطفي من القصة، وذلك لكسب قلوب الجالسين وأبداء مهاراتهم بالقدرة على النعي وإبكاء الجالسين قدر ما إستطاعوا. اما الدكتور علي الوردي فيقول أن الفرق بين رجل الدين السني والشيعي أن رجل الدين السني مرتبط بالسلطة فهو يمدحها مادام رزقه عليها، أما رجل الدين الشيعي فرزقه على الناس، فيحابيهم بدغدغة عواطفهم بعيدا ً عن النقد لظواهر المجتمع السلبية فهو مرتبط بأهوائهم لإرتباط رزقه بها.

إذن، كل شيء يمكن أن يتاجر به إلا الأخلاق. فعندما يُنظُر أحدهم لقيم أخلاقيه عليه هو أولا ً أن يتحلى بها فكيف وهو يأخذ أجرا ً عليها، فأي قيمة تبقى لها! لقد ظلت المناسبة منبعا ً للحزن لمحبيه الإمام الحسين، وهي فرحة عند البعض عندما تصبح فرصة لكسب المال.

http://www.elaphblog.com/imadrasan