لم أتفاجئ ولكني تألمت كثيرا ًمن طرح مجموعة من المثقفين العرب في برنامج حوار العرب الذي يقدمه طالب كنعان من على شاشة قناة العربية بطريقة مميزة وإحترافية. لقد كان هذا الطرح غير واقعي ولا علمي. لقد تمنيت أن يكون أحد ضيوف البرنامج من الإكاديميين في الفكر السياسي وذلك لإغناء هذا النقاش. فمثقفونا لازالوا يعيشون في التاريخ وعلى هامش الحاضر. وكأنهم يسبحون بعيدا ً في أحلامهم ويريدون الشعوب العربية أن تسبح خلفهم بثقة وحماس لتحقيق الملاحم الكبيرة.

لقد أتفق جميع الضيوف بأن فكرة القومية العربية فكرة ناجحة على المستوى النظري وهي مازالت تعيش في قلوب الشعوب العربية لتحقيق حلم الوطن العربي الواحد. وزعموا أن فشل مشروع الوطن الواحد كان بسبب المؤامرات العالمية وفشل الحكام العرب الذين إهتموا بمصالحهم ونسوا شعوبهم غارقين في نزاعات غير مبررة. كانوا يتحدثون وكأنهم وحدهم في هذا العالم أو كمن يعيش على القمر ناسين سياقات فكرة القومية العربية في بعديها الدولي والاقليمي. فهم يريدون وطن قومي عربي واحد يتكلم لغة عربية واحدة ذات ثقافة عربية نقية ترتبط بالإسلام فكرا ً وثقافة. وهذا الوطن القومي سيتفضل على باقي القوميات، أو الأقوام كما سموها في البرنامج بصيغة عدم الإعتراف، بإعطائهم حقوقهم القومية والدينية والثقافية، كالأكراد والأمازيق وباقي الطوائف الغير إسلامية. فهل هذا الطرح معقول؟

لقد نشأت فكرة بناء دولة على أساس قومي في أوربا في بدايات القرن التاسع عشر بعد أن كان الناس يتبعون في الولاء للأمراء والملوك والمدن، وهي فكرة رومانسية كما يسميها الباحثون في الفكر السياسي. وبعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية وديمقراطية بريطانيا نشأت فكرة بناء الدولة على أساس قومي لكن بإتجاهات مختلفة. فهناك الإتجاه الليبرالي الذي ركز على الحريات الفردية لترتبط فكرة الدولة القومية بالفلسفة العقلانية أي على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات كما في فرنسا وأمريكا وبريطانيا. وبالتتابع نالت الأقليات حقوقها بعد صراعات طويلة في تلك الدول. وهناك إتجاه وهو الأخطر إذ ربط فكرة الدولة القومية بالعنصر الإثني أو الديني أي دولة على أساس العرق الواحد أو الدين الواحد، وهي فكرة رومانسية غير ذات فلسفة عاطفية، وتركز هذه الفكرة على الهوية الجماعية وحقوق المجموعات مقابل الأفراد في المثال الأول، كما حدث في المانيا وايطاليا. وهناك فكر قومي ارتبط باليسار والإشتراكية ليبني أمة ليست على أساس العرق بل على أساس الأيدلوجيا والهوية الجمعية بدل الفردية أيضا ً كالإتحاد السوفيتي سابقا ً أو كوبا كاسترو حاليا ً. إذن، هناك أمثلة متعددة لبناء أمة على أسس مختلفة لكن أخطرها بناء الدولة على أساس قومي عرقي شوفيني، أي المبالغة في الهوية الوطنية حد العداء للآخر كالمهاجر والاجنبي. والأخطر منه أذا كان هذا النظام شمولي ذات طابع عسكري كما حدث في بلداننا في الخمسينات والذي ندفع ثمنه الآن ومازلنا في سكرة الحلم القومي.

يجب أن نفرق هنا بين مفهومين للهوية القومية. المفهوم الأول هو الهوية القومية بما هو كائن، أي الهوية العربية الثقافية أي الذي يتكلم اللغة العربية ويحمل الثقافة العربية من أي عرق أو دين، وهذا حق طبيعي لكل الشعوب بما الشعوب العربية. المفهوم الثاني هو الهوية القومية بما يجب أن تكون، أي الهوية القومية على أساس سياسي أيدلوجي، وهذا المفهوم هو أخطر مايكون. أي الأمة على أساس العرق أو الدين الواحد والذي نحن مصابين به. فهذا يؤدي بالأمة للشعور بالتفوق والنظرة للآخر نظرة عنصرية دونية، ويمكن أن تنتفخ هذا الهوية لتخذ طابع عدواني توسعي. ونتائجها هو قمع الأقليات والإعتداء على حقوقهم الثقافية لتصل حد إلغاء الخصوصية والهوية الفردية بإسم حقوق الجماعة والحق القومي ببناء الدولة القومية. فالننظر لعالمنا العربي ولنرى، أي نموذج نمتلك نحن وأي نموذج نطمح بتحقيقه للأمة العربية؟ هل أخذ الاكراد والأمازيق حقوقهم؟ هل يمارس الشيعة والمسيحيين وباقي الأقليات طقوسهم الدينية؟ هل تمنح الدول العربية حق الجنسية للمواليد على أرضها للذين يعيشون على أراضيها من جنسيات مختلفة؟ الا يوجد الكثير من يعيشون في دول عربية مختلفة لعقود كثيرة من غير أن يحصلوا على حق الجنسية، وإن كانت أمهاتهم من نفس عرق مواطني الدولة. هل يعامل الكل من جميع الثقافات والأعراق بمساواة أمام القانون على الأقل وليس مواطنين من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة. فأية قومية عربية نتحدث عنها؟

إن أصعب شيئ في زمن العولمة والتواصل بين الشعوب بالتقنيات الحديثة هو أن تسبح عكس التيار. فقوميونا يسبحون عكس التيار وليس أقل منهم ضيوف البرنامج. فالعالم نسى فكرة بناء الدولة على أساس قومي عرقي، حيث خرجت تلك الفكرة من عقب التاريخ. وبناء الدولة على أساس قومي محكوم عليها بالفشل، حيث تسعى الدول للتنوع في الأديان والثقافات والأعراق لتبقى حية وتعيش في خضم هذا الكم الهائل من التنوع. فأصحاب الفكر السياسي الآن يبحثون عن حلول للموائمة والتوفيق بين الهويات الفرعية للأديان والثقافات على قاعدة التسامح والتعايش السلمي والحفاظ على حقوق الأفراد بكل أنواعها. منذ زمن بعيد بدأت الدول ببناء مجتمعات مايسمى متعددة الثقافات(Multiculturalism) على أساس المساواة بين جميع أبناء الوطن تحت شعار المواطنة. وأن ظهور المنظمات العالمية، ومنها منظمات المجتمع المدني، أضعف دور الدولة والحكومات مبشرا ً بموت الأيدلوجيات وسيادة المبادئ الأخلاقية في صراعها مع الرأسمالية لتحكم الشعوب.

إن التوجه العالمي ترك النظرة التعميمية الشمولية (Universalism) ليتجه نحو النظرة التخصيصية الفردانية (Particularism)والتعددية (Pluralism) مما أدى لظهور الهويات الفرعية، الدينية والطائفية والعرقية وحتى الفردية، وذلك على حساب الهوية الجمعية للأمة الواحدة والعرق الواحد. فتلط ظاهرة عالمية وليس كما أدعى الضيوف بإنها مؤامرة. إنه بإختصار توجه عالمي يركز على الفردية مستندا ً على مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية وحرية التجارة والإعلام وغيرها، وفي الخصوص بعد فشل الأيدلوجية الشيوعية وتفكك الإتحاد السوفيتي السابق. أما مجتمعات مابعد الحداثة فقد إنتفت بها الهوية الجمعية وحتى الفردية أيضا ً كمفهوم تأسيسي(Essential) بل هي مفهوم بنائي(Constructural) يخضع للظروف التي تحيط به وتكونه، فالهوية شيء متحرك أي صيرورة متغيرة ومتحولة وغير ثابتة حيث ترتبط بالمستقبل وما يمكن أن تكون أكثر من إرتباطها بالجذور والتاريخ والماضي. ربما يكون هذا الطرح مفاجئا ً للكثيرين لكن هذا ماهو قادم الينا مع العوليمة.

السؤال المهم هو، لماذا يعود بنا مثقفونا للماضي؟ لماذا التركيز على الهوية القومية العربية ببعدها السياسي الأيدلوجي؟ اليس هذا ضرب من الخيال إن لم يكن ضرب من الجنون؟ لماذا هذا التعلق والتوهان في التاريخ لإعادة إنتاجه؟ اليس هذا يعبر عن الإفلاس من المستقبل أم هو توجه فيه بعد نرجسي يحلم بالماضي بصورته الشوفينية التي تحتقر الآخر بإعتباره أقل شئنا ً من أجل الشعور بالتفوق والعظمة الزائفة، وبالخصوص الإرتباط بالفكر الديني لإظفاء طابع النقاوة والقدسية بعيدا ً عن أعين النقد والتغيير والإصلاح. فمتى نصحوا نحن العرب لنفهم أنا بشر كباقي البشرولسنا أفضل أو أحسن من باقي البشر!

http://www.elaphblog.com/imadrasan