حظيت المنطقة العربية بنصيب وافر من الوثائق السرية التي نشرها جوليان أسان مؤسس موقع ويكيليس المثير للجدل. كشفت معظم الوثائق المُسَرَّبة عن الازدواجية التي تتعامل بها الأنظمة العربية مع القضايا الساخنة التي تشتعل بها المنطقة. دائما كان هناك ما يمكن التصريح به علناً لوسائل الإعلام ودائماً كان هناك ما لا يمكن التصريح به ولكن يمكن قوله في الجلسات الخاصة التي تجمع بين السياسيين. من الوثائق التي لفتت انتباهي وثيقة رقم 08CAIRO1067 التي نشرت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي تتعلق بمقابلة الرئيس المصري حسني مبارك في مايو من العام 2008 بمدينة شرم الشيخ مع وفد الكونجرس الأمريكي الذي قاده برايان بيرد وضم في عضويته كريستوفر شايز وبيتر دي فازيو وجيف فورتينبيري وجيم كوبر وجين هارمان.

كان ما قاله الرئيس مبارك في المقابلة مدهشاً لم نسمعه علانية منه أو من أي من المسئولين المصريين. قال مبارك رداً على سؤال من أحد أعضاء وفد الكنوجرس الأمريكي تعلق بالانسحاب الأمريكي من العراق quot;لا تستطيعون المغادرة لأنكم ستتركون زمام الأمور في أيدي إيران.quot; وأوضح مبارك وصفته الخاصة للاستقرار في العراق حين طالب الأمريكيين بالعمل على تقوية القوات المسلحة العراقية قبل أن يخففوا من سيطرتهم على الأمور حتى يسمحوا بانقلاب عسكري يزيح الحكومة الحالية ويستولي على السلطة في بغداد. أشار مبارك إلى أن الانقلاب يفترض أن يقود ديكتاتوراً عادلاً للسلطة. وطالب الرئيس المصري الأمريكيين بنسيان مسألة الديمقراطية في العراق معللاً ذلك بالطبيعة الصعبة للشعب العراقي.

تبدو تصريحات الرئيس مبارك متسقة مع نهجه السياسي الذي يدير به مصر ولكنها لا تبدو منطقية في ما يتعلق بمستقبل العراق. لا يمكن إنكار أن مبارك كان أميناً في نصيحته لأنه أراد للعراق مصيراً مثيلاً لمصير مصر تحت قيادته، ذلك بغض النظر عما إذا كان الرجل عادلاً أم لا. فالرئيس مبارك كان ولا يزال من أشد معارضي الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة وتفتح المجال أمام الحريات. ولعلنا لازلنا نتذكر المواجهات التي خاضها مبارك مع الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بسبب مطالب الثاني للأول باحترام رغبة الشعب المصري والسماح بالمزيد من الحريات واحترام حقوق الإنسان. وقد كانت للرئيس مبارك في هذا الصدد مقولته الشهيرة بأن ما يصلح في الغرب لا يصلح في الشرق وأن فرض الديمقراطية الغربية على المجتمعات العربية عمل مرفوض ولن يصيبه النجاح.

لم يكن حديث الرئيس مبارك عن رغبته في عودة الدكتاتورية للعراق بعد كل التضحيات التي قُدمت والجهود التي بُذلت بالحل الجيد على الإطلاق حتى لو كان الاستقرار مظهراً من مظاهر النظم الدكتاتورية، لأن هذا الاستقرار مظهري مبني على الخوف وليس جوهرياً نابعاً من مبادئ يؤمن بها العراقيون. فالعراق الذي تحرر من قبضة الدكتاتور صدام حسين يجب أن يتقدم إلى الأمام ولا يجب أبداً أن يعود إلى الوراء. تشبه وصفة الرئيس مبارك قيام طبيب بقتل المرضى بدلاً من علاجهم من أمراضهم. قد يكون صحيحاً أن حكم العراق أمراً عصيباً بسبب الطبيعة الديموغرافية له والتوزيعات الطائفية التي تكاد تمزقه، ولكن من المؤكد أن أمر عودة الدكتاتورية للعراق لا يجب أن يطرح على الطاولة إطلاقاً لأن انتكاسة الديمقراطية في العراق سيكون لها مردوداً سلبياً خطيراً محلياً وإقليمياً.

لا يساوروني الشك في أن الحل الأمثل لخروج العراق من أزمته يكمن في تخلي كل القوى الإقليمية عن مطامعها وتدخلاتها في العراق. أصبح العراق بعد سقوط نظام صدام حسين مرتعاً لقوى شيعية وسنة متصارعة. يلعب التوزيع الديموغرافي للعراق دوراً كبيراً في تغذية الصراع بين هذه القوى. ترغب إيران الشيعية بقوة في إنشاء نظام عراقي ضعيف يؤمر ويطيع ويخضع تماماً لنظام الملالي. على جانب اخر ترغب القوى السنية الكبرى المنطقة كمصر والسعودية في وجود حكومة عراقية قوية تتمكن من السيطرة على المد الإيراني وكبح جماح النفوذ الشيعي المتزايد. ولقد عبّرت وثائق كثيرة كشفها موقع وكيليكس عن عمق المخاوف التي تنتاب الحكام العرب من الخطر الإيراني الذي لا ينكره عاقل.

جانب الصواب الرئيس مبارك في حديثه عن رغبته في عودة الدكتاتورية للعراق ليس فقط لعدم ملائمة الحديث، ولكن أيضاً لأنه يمكن أن يتخذ سنداً ضد مصر. من الممكن أن تُتهم القاهرة بعدم التعاون مع العراق للقضاء على الإرهاب. بل أنه من الممكن أن تتهم مصر بالعمل على زعزعة الاستقرار في العراق. ومن الممكن أن يذهب فكر البعض بعيداً ليتهم مصر بدعم الإرهابيين الذين يعيثون فساداً في الأراضي العراقية حتى لا تستقر الأمور ويحدث الانقلاب العسكري الذي يعود بالدكتاتورية من جديد. كان بالحري بالرئيس مبارك الذي يتمتع بخبرة كبيرة بشئون المنطقة أن يتحدث عن دعم الحكومة العراقية في تصديها للإرهاب وعن الجهود لحشد تأييد الدول العربية لعراق مستقل قوي لا يخضع لطهران ولا يتلقى الأوامر من ملاليها.

سيكون مؤسفاً ومحزناً بحق وأد الديمقراطية الوليدة في العراق. لقد ارتفعت الأمال لدى الباحثين عن الحرية في العالم العربي في أن تعمل ديمقراطية العراق كنواة للديمقراطية في البلدان العربية الأخرى، وإذا ما انهارت الديمقراطية في بلاد الرافدين ستحتاج المنطقة عقوداً طويلة حتى يشرق من جديد أمل في الديمقراطية. صحيح أن تجربة العراق الديمقراطية مريرة مرارة العلقم، وصحيح أنها تطرح أسئلة كثيرة عن مدى قدرة العراقيين والعرب بشكل عام على العيش والتعايش في ظل أجواء حرة وديمقراطية. ومن المؤكد هنا أنه يقع على الشعب العراقي دور كبير في إفشال المخططات التي تستهدف النيل من الديمقراطية والحرية التي قد ينعمون بهما لو تمكنوا من إلقاء كل خلافاتهم الطائفية وراء أظهرهم. دعونا نأمل أن يحصد العراقيون ثمار التضحيات التي قدموها في السنوات السبع الماضية، ودعونا نأمل أن تصبح الديمقراطية في العراق منارة تشع بنورها البهي على الدول التي لم تعرف الديمقراطية بعد.

[email protected]