quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot;
تعود نشأة معظم الأحزاب والتنظيمات السياسية السورية باتجاهاتها الأساسية الثلاث،القومية واليسارية والاسلامية، الى النصف الأول من القرن الماضي،حقبة المد القومي والايديولوجيات الشمولية.أبرز هذه الأحزاب(البعث العربي الاشتراكي- الشيوعي- السوري القومي الاجتماعي- حركة الأخوان المسلمين- الديمقراطي الكردي- المنظمة الآشورية


الأحزاب السورية ومسألة الأقليات(1- 8)

الديمقراطية).توصف بأنهاquot;الأحزاب الأمquot;،حيث عنها انشقت وتفرعت غالبية الأحزاب والتنظيمات والتيارات السياسية الفاعلة اليوم في الساحة السورية.رغم أهمية معالجة quot;مسألة الأقلياتquot;في تعزيز الوحدة الوطنية وارتباطها المباشر بالديمقراطية والحريات وحقوق الانسان،أهملت هذه المسألة من قبل مختلف الأحزاب والحركات السياسية السورية،كما أنها وقعت ضحية الأوهام الأيديولوجية وقصور الفكر الوطني للقوى العربية والاسلامية،التي اختزلت الهوية الوطنية السورية بـ quot;العروبة والاسلامquot;ونظرت الى الهوية الوطنية على أنها قضية منجزة ونهائية،متجاهلة وجود ثقافات وهويات وديانات وشعوب وأقوام أخرى تعيش على الأرض السورية تشكل اليوم جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية السورية،وجود بعضها،مثل الآشوريين(السريان)،سبق وجود العرب المسلمين بقرون طويلة على هذه الأرض.وبدلاً من أن تتعاطى القوى السياسية والنخب العربية والاسلامية مع ظاهرة التنوع والتعددية التي يتصف بها المجتمع السوري، باعتبارها ظاهرة تاريخية حضارية،تعاملت معها على أنها من مخلفات وصنع الاستعمار الغربي،وبقي موقفها من quot;مسألة الأقلياتquot; أسير quot;نظرية المؤامرةquot;،مشككة بنوايا وانتماء كل من يثير هذه المسألة ويطالب بحلول وطنية ديمقراطية عادلة لها.

بعد التحولات السياسية العميقة والتبدلات الفكرية المهمة التي شهدها العالم،في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي 1989وسقوط حكم الأحزاب الشمولية في أوربا الشرقية وصعود الموجة العالمية للديمقراطية وتزايد الاهتمام الدولي بمسالة الأقليات،سعت الأحزاب السورية الى ركوب موجة الديمقراطية من خلال تطعيم خطابها ببعض الشعارات والمقولات المؤيدة للحريات السياسية و لحقوق الانسان والتي تدعو الى تحقيق العدالة والمساواة.لكنها بقيت أحزاب تقليدية ماضوية في تفكيرها،عاجزة عن التحول الى أحزاب وحركات ديمقراطية وطنية حقيقية فاعلة في مجال الدفاع عن الحريات والحقوق الديمقراطية وعن قضايا الشعوب السورية المهمشة والمضطهدة.

في هذا الجزء من بحثquot;الأحزاب السورية ومسألة الأقلياتquot; سنتناول موقف quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot; الحاكم،الذي ينتمي الى أقدم quot;المدارس السياسية والفكريةquot; التي نظرت للقومية العربية ودعت الى لم شمل العرب في كيان سياسي عربي واحد يمتد من المحيط الى الخليج.والبعث مازال متمسكاً بايديولوجيته وعقيدته القومية وبتنظيراته الطوباوية،يرفع ذات الشعارات والأهدافquot;أمة عربية واحدة...ذات رسالة خالدة...وحدة حرية اشتراكيةquot;،رغم سقوط المشروع القومي العربي أمام تحديات الواقع وتناقضات الحياة،وانحسار فكرة القومية العربية وتراجع رصيدها لدى الشعوب العربية.

معلوم أن quot;الدولة السوريةquot; الحديثة، التي تأسست في عشرينات القرن الماضي، كانت تسمى بـquot;الجمهورية السوريةquot;.اختيرت هذه التسمية مراعاة واحتراماً لماضي وتاريخ سوريا ولحاضرها الزاخر بالتنوع(القومي والديني والثقافي واللغوي والاثني)، من جهة أولى.وإقراراً بأن quot;الرابطة السوريةquot;-وليس العربية-هي الرابطة الوطنية الجامعة الموحدة لكل السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وأصولهم،من جهة ثانية.لكن قيام quot;الجمهورية العربية المتحدةquot;، التي ضمت كل من سوريا ومصر عام 1958 وفسخ هذه الوحدة عام 1961،أنعش فكرةquot;العروبةquot; لدى قادة الانفصال وشجعهم على تسمية الدولة السورية بـquot;الجمهورية العربية السوريةquot;.هذه التسمية جاءت متوافقة مع العقيدة القومية والتوجهات السياسية لـquot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot;،الذي قاد انقلاباً عسكرياً على حكم الانفصال آذار 1963.مع هذا الانقلاب البعثي دخلت سوريا ومعها quot;مسألة الأقلياتquot; عهداً سياسياً جديداً،اتسم بالاستبداد (القومي والسياسي والثقافي)،وباضطهاد موصوف وفاضح للقوميات والشعوب السورية الغير عربية،مثل الآشوريين(سريان-كلدان) والأكراد والأرمن وغيرهم.وبدلاً من أن يسارع قادة الانقلاب البعثي الى اجراء انتخابات حرة وديمقراطية،برلمانية و رئاسية، لكسب شرعية وطنية ونيل ثقة الشعب السوري، ضللوا الشعب وخدعوه لا بل خدروه بشعارات راديكالية وخطب قومية سياسية رنانة،وسموا انقلابهم العسكري quot;ثورة شعبيةquot;،فيما الشعب منها براء.ولتثبيت حكمهم وتعزيز سلطتهم سارعوا الى اعلان quot;حالة الطوارئ والاحكام العرفيةquot; في البلاد.مبررين خطواتهم الانقلابية واجراءاتهم التعسفية الغير دستورية بـ quot;حماية الثورة، والدفاع عن خيار الوحدة والتصدي للمؤامرات الداخلية والخارجيةquot;.وقد أتبع أو استكمل حزب البعث العربي الاشتراكي انقلابه العسكري بانقلاب سياسي وثقافي على quot;الجمهورية السوريةquot; وعلى دستورها الوطني،وذلك من خلال فرضه على الشعب السوري quot;دستوراًquot;جديداً للبلاد.استوحاه من دستوره القومي (الحزبي) الخاص ومن منطلقاته الفكرية والنظرية.نصب فيه نفسه قائداً أبدياً للدولة والمجتمع وفق المادة الثامنة منه.يتسم الدستور الجديد الذي وضعه البعث بنزعة (شوفينية عنصرية) واضحة ومكشوفة تجاه كل من هو غير عربي. فـ(البعث) لم يكتف بتعريب جميع مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والتعليمية في سوريا واختزال الهوية الوطنية للدولة السورية الحديثة بـquot;العروبة والاسلامquot;،وانما سعى ويسعى بطرق وأشكال مختلفة لإرغام جميع السوريين من غير العرب على التخلي عن شخصيتهم القومية وعن هويتهم الثقافية واعلان ولاءهم السياسي المطلق للعروبة،ولتحويل المجتمع السوري الى مجتمع أحادي وجعل من سوريا دولة بقومية ولغة وثقافة واحدة،لاحقاً بديانة واحدة،هيquot;الاسلامquot;.ألم يقل (ميشيل عفلق)،مؤسس حزب البعث:quot; إذا كان محمد لكل العرب فليكن كل العرب محمداًquot;.التزماً بهذه الأفكار والعقائد وتطبيقاً لها، تلزم quot;دولة البعثquot; كل مواطن سوري، بصرف النظر عن أصوله الإثنية،على قيد انتمائه في البطاقة الشخصية على أنهquot;عربي سوريquot;.وانطلاقاً من هذه العقائد المتكلسة والايديولوجيات الشمولية، المعطلة لحركة التاريخ والدولة والمجتمع والقاتلة للحياة السياسية ولروح الإبداع والتطور في سوريا، حدد حزب البعث العربي الاشتراكي موقفه من quot;مسالة الأقلياتquot; وتبنى خيار quot;الاندماج القسريquot;لمختلف الشعوب والأقوام السورية وصهرها في بوتقة القومية العربية.في اطار الاستمرار في تطبيق هذا الخيار،نفذ حزب البعث العديد من المشاريع الشيوفينية والعنصرية،أخطرها quot;الحزام العربيquot;عام 1971( جلب عرب من محافظات أخرى وإسكانهم في منطقة الجزيرة السورية، حيث التجمعات الكبيرة للأكراد والآشوريين والأرمن والايزيديين).من النتائج المباشرة لهذا الحزام تقليص وبشكل كبير مساحات الأراضي الزراعية المستحقة لآلاف العائلات الكردية والآشورية(السريانية) والأرمنية واليزيدية،وحرمان تام لعائلات أخرى كثيرة من الانتفاع بأراض زراعية،فضلاً عن حصول حركة هجرة خارجية واسعة من منطقة الجزيرة. تقدر أعداد الآشوريين(سريان/كلدان)الذين هاجروا منذ وصول حزب البعث الى السلطة بأكثر من ربع مليون شخص.وقد هاجر مثلهم وربما أضعافهم من أبناء القومية الكردية والأرمنية ومن أتباع الديانة الايزيديية.يبدو جلياً،أن الهدف الأساسي لحزب البعث من هكذا مشاريع عنصرية،هو تفكيك التجمعات الغير عربية،وإحداث تغير ديمغرافي لصالح quot;العنصر العربيquot; في مناطق الجزيرة.

ربما قليل من السوريين،وحتى من البعثيين أنفسهم، يعرفون بأن quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot;، الذي يحكم سوريا منذ نحو نصف قرن،لم ترد في دستوره القومي الخاص(الحزبي)،ولو لمرة واحدة، اسم quot;سورياquot; كدولة أو كوطن للسوريين.لأن البعث،بحسب عقيدته القومية، لا يعترف بالدولة السورية كوطن نهائي للشعب السوري ولا يقر بسيادة كاملة لهذا الشعب على دولته ووطنه، وانما، وفق دستوره القومي،quot;الشعب السوريquot;هو جزء من quot;أمة عربيةquot;،وquot;سورياquot;مجرد quot;كيانquot; آني مؤقت،quot;قُطرquot;،سيزول بمجرد قيام الدولة العربية الواحدة التي ينشدها.وأيضاً،وفق عقيدة البعث ودستوره القومي،سوريا أرض عربية وكل من يعيش عليها هو عربي، أو يجب أن يكون عربياً،ومن يقول خلاف هذا هو معاد للعرب وضد قضاياهم يجب أن يرحل ويجلى من ارض العرب.هذا ما تنص عليه المادة 11 من الدستور القومي للبعث:quot;يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم الى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر الى الوطن العربي لغاية استعماريةquot;. والمادة 15 تنص على أن: quot;الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة، وهو(البعث)يكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليميةquot;.طبعاً،وفق المفاهيم والمنطلقات القومية والفكرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، كل تجمع أو اطار سياسي أو ثقافي أو قومي غير عربي(آشوري،كردي،أو غير ذلك)لا يؤمن بالعروبة كهوية وانتماء له،هو بالضرورة تكتل عنصري يجب أن يزال ويمحى من الوجود.انطلاقاً من هذه النظرة العنصرية للآخر، يصف حزب البعث في quot;تقاريره الداخليةquot; أحزاب القوميات السورية الغير عربية(الأحزاب الكردية والآشورية) بـquot;الأحزاب المعاديةquot;.

رغم تشديد القبضة الأمنية على المجتمع السوري، ومضاعفة عسف السلطة وقمعها لنشطاء المعارضة وزج الكثير منهم في السجون، في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، انتعشت الأقليات قليلاً،وحصل تراخ ملحوظ في الضغوط السياسية والأمنية التي كانت تمارس بشكل خاص على الأكراد والآشوريين،وبدأت السلطات تغض النظر عن بعض نشاطاتهم القومية والثقافية وحتى عن بعض الفعاليات السياسية لأحزابهم.طبعاً،هذا لا يعني دخول الأكراد والآشوريين مرحلة quot;شهر العسل السياسيquot; مع النظام البعثي.فالانفراج النسبي والمحدود الذي طرأ على وضع الأقليات،تم لأسباب تخص طبيعة النظام السياسي والحكم الجديد الذي اقامه الأسد الأب،والذي ارتكز بشكل أساسي على سياسة quot;الاحتواء الايجابيquot;للأقليات المغبونة.وما اقرار الحكومة السورية يوم(21) آذار من كل عام،يوم quot;عطلة رسميةquot; في جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية،في عهد الرئيس حافظ الأسد- وان غلف قرار التعطيل بـ quot;عيد الأمquot;- إلا لإتاحة الفرصة أمام أكراد سوريا للاحتفال بعيدهم القوميquot;نوروزquot;،الذي يصادف في نفس اليوم، بحرية ودون خوف ومضايقات أمنية.هذا الانفراج النسبي انسحب على احتفالات الآشوريين السوريين بأعيادهم ومناسباتهم الخاصة،مثل quot;عيد الأكيتو- رأس السنة البابلية الآشوريةquot;.تجدر الاشارة هنا الى أن الرئيس حافظ الاسد قال، لدى استقباله (أعضاء المجمع المقدس للسريان الأرثوذكس) في 17-3- 1997:quot;أيها السريان، سوريا بلدكم أينما كنتم وهذا حقكم، وعندما أقول ذلك لا أعطيكم ما ليس لكمquot;.الأسد، أراد التأكيد على أصالة السريان (الآشوريين) ASSYRIAN سكان سوريا الأوائل والذين عنهم أخذت اسمها SYRIAN. لكن من غير أن تترجم شهادته الى اعتراف دستوري بالوجود القومي للآشوريين أو منحهم حقوقاً قومية.في ذات الاطار،وبعد أحداث آذار 2004،وفي مقابلة له يوم 1-5-2004 مع فضائية الجزيرة القطرية، قال الرئيس (بشار الأسد): quot; ان القومية الكردية تشكل جزءاً رئيساً في النسيج السوري ومن التاريخ السوري، وأن أحداث آذار القامشلي لم تتم بتأثيرات خارجية، كما ان موضوع الأكراد المجردين من الجنسية هي في المراحل الأخيرة من الحلquot;.بذلك يكون الرئيس بشار أول رئيس سوري بعثي، وأمين عام لحزب البعث، يعترف رسمياً بالقومية الكردية في سوريا.كلام الرئيس الأسد،حرك ملف المحرومين من الجنسية وتمت مناقشته في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث عام 2005 وشكلت لجان خاصة لبحثه ومعالجته.لكن الى تاريخيه لم تتخذ أي خطوات عملية ايجابية على صعيد معالجة هذا الملف ببعده الانساني والقانوني والحقوقي.وبموجب مسودة quot;قانون الأحزابquot; التي وضعتها اللجنة الخاصة المنبثقة عن المؤتمر لن يسمح بتشكيل أحزاب على أسس عرقية أو دينية،وهذا يعني وضع فيتو قومي عربي على تشكيل أحزاب كردية وآشورية وأرمنية أو أي حزب أو حركة سياسية خارج اطار القومية العربية.الأمر الذي يؤكد مجدداً على استمرار البعث على موقفه السلبي الرافض للاعتراف بخصوصية الأقليات ولمنحها حقوقاً قومية وثقافية وإعلامية ديمقراطية،حتى تلك التي لا تخرج عن الحقوق الأساسية للمواطنة الكاملة.

اليوم،ثمة معطيات ووقائع سياسية وأمنية كثيرة تؤكد على أن السلطات السورية بدأت تعود شيئاً فشيئاً الى سياسية تشديد الحصار على القوميات الغير عربية،خاصة على الأكراد والآشوريين، وتضييق الخناق على أحزابها.في السنوات الأخيرة، وصل مستوى بطش السلطة وقمعها الى وقوع قتلى وجرحى أكراد يحتفلون بأعياد نوروز. وفي اطار مواصلة نهج التعريب ومحو كل مشهد لا يمت الى العرب والعروبة من اللوحة السورية،أقدمت السلطات مؤخراً على شطب خانة quot;آشوريquot; من سجلات قيد النفوس في مدينة القامشلي.وقامت بتعريب أسماء عشرات القرى والبلدات الكردية والآشورية (السريانية).وأحيى النظام البعثي مجدداً سياسة الضغط والحصار والمشاريع العنصرية والتدابير الشوفينية بحق القوميات الغير عربية في منطقة الجزيرة،بقصد تهجير المزيد من ابنائها.من هذه التدابير، المرسوم التشريعي رقم 49 الصادر بتاريخ 10/9/2008 الذي يقضي بفرض قيوداً وشروطاً تعجيزية على البناء وعلى استملاك واستثمار العقارات وغيرها من المشاريع الاستثمارية في محافظة الحسكة.

فيما يخص الحقوق والحريات الدينية لغير المسلمين،لم تتأثر كثيراً في عهد حزب البعث.عموماً،حافظ البعثيون على هامش الحريات،الدينية والاجتماعية، الذي يتمتع به المسيحيون وأتباع الديانات الأخرى منذ نشوء واستقلال الدولة السورية الحديثة.مع التأكيد على وجود اضطهاد ديني للأقلية الايزيدية.يتمثل هذا الاضطهاد بحرمانها من تعليم عقيدتها الخاصة لأبنائها الطلبة في المدارس الحكومية.اذ تجبر وزارة التربية الطلبة الايزيديون على تسجيل ديانتهمquot;اسلاميةquot; في خانة (التربية الدينية) ودراسة quot;الديانة الاسلاميةquot;.تجدر الاشارة هنا الى أن معظم الطلبة الايزيديين الذين كانوا معنا في المرحلة الدراسية فضلوا دراسة مادة quot;التربية الدينية المسيحيةquot;،وليس الاسلامية، لطالما حرموا من تعلم ديانتهم الخاصة.بسبب هذا الاضطهاد والحرمان الموصوفين هاجر غالبية أبناء الطائفة الايزيدية وكادت الجزيرة السورية أن تخلو من هذا المكون السوري الأصيل ومن هذه الديانة القديمة جداً والتي يعود ظهورها في بلاد ما بين النهرين الى الألف الثالث قبل الميلاد.بالنسبة للأقلية اليهودية(الطائفة الموسوية)،لأسباب دينية واجتماعية وأخرى سياسية تتعلق بقيام quot;دولة اسرائيلquot; ترك أبناء هذه الطائفة سوريا.فقد خلت مدينة القامشلي كلياً من اليهود وأغلق معبدهم الخاصquot;الكنيسquot;. وفي حلب ودمشق لم يتبق سوى عدد قليل جداً من العائلات اليهودية.

البعث، كحزب سياسي، ذو توجهات علمانية،يسترشد بالمبادئ الماركسية واليسارية في منطلقاته الفكرية والنظرية،كان المطلوب والمنتظر منه تخليص quot;الدستور السوريquot; من جميع شوائب والنزعات الطائفية التي تعيق تطويره الى دستور وطني ديمقراطي عصري،ومن تلك التي تمنع الانتقال بسورية الى دولة مدنية معاصرة حديثة محايدة عن كل العقائد الدينية والقومية،وتحريره من النصوص التي تجعل الكثير من القوانين السورية والقضايا الاجتماعية والحريات الفردية تحت رحمة فتاوى رجال الدين والشرع الاسلامي،ومن تلك التي تميز وتفضل بين السوريين على اساس الدين. ( المادة 3 quot;دين رئيس الجمهورية هو الإسلامquot;. quot; الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريعquot;). هذه المواد وملحقاتها،التي تتنافى مع مبادئ شرعة حقوق الانسان وتتناقض مع أسس الشراكة الحقيقية في الوطن ومع المفاهيم الصحيحة للمواطنة،شكلت البيئة القانونية والتشريعية والثقافية والاجتماعية لاضطهاد اجتماعي ولانتقاص من المكانة الوطنية ومن حقوق المواطنة لغير المسلمين وجعلتهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة،فضلاً عن تهميش سياسي لأكثر من مليوني مسيحي سوري. حقيقة،أن تراجع الدور السياسي لمسيحي سوريا، قياساً لما كانوا يتمتعون به في بدايات عهد الاستقلال، لا يعود فقط لانخفاض نسبتهم من نحو 35% من السكان في بداية عهد الاستقلال الى أقل من 15% اليوم،وانما أيضاً الى تنامي دور ونفوذ quot;التيار الاسلاميquot; داخل صفوف حزب البعث ومفاصل الدولة وتأثيره على توجهات الحزب وسياساته الداخلية.وربما،أقول ربما، تتعمد القيادات البعثية الى تخفيض السقف السياسي للمسيحيين إرضاء أو مجاملة للقوى الأصولية والمرجعيات الاسلامية،داخل وخارج البلاد.يذكر أن الشخصية الوطنية البارزة (فارس الخوري)،مهندس الاستقلال السوري والذي شارك في صياغة quot;ميثاق الأمم المتحدةquot;، كان رئيسا للحكومة الوطنية عندما نالت سورية استقلالها،كما تولى رئاسة البرلمان السوري لمرات عدة في انتخابات حرة ونزيهة.عام 1934 فاز الخوري برئاسة المجلس ونال 115 صوتا من أصل 120 مقترعا.في حين منذ مجيء حزب البعث الى السلطة لم يتول مسيحياً رئاسة الحكومة ولا رئاسة البرلمان ولا حتى وزارات أساسية مهمة في الدولة،باستثناء وزارة الخارجية التي تولاها(جورج صدقني) في بداية عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد.اليوم،في ضوء الحالة السياسية والاجتماعية الراهنة لسوريا،اعتقد بأن مسيحياً واحداً لن ينجح بأصوات مقترعين مسلمين في أية انتخابات حرة ديمقراطية تجرى في سوريا،وذلك بسبب تنامي الانتماءات والنزعات الطائفية والمذهبية وتراجع القيم والأخلاق الوطنية لدى قطاعات وشرائح سورية واسعة.صحيح أن النظام البعثي القائم، يراعي بحدود معينة التوازنات الطائفية وتمثيل الأقليات ومختلف شرائح المجتمع السوري في تركيبته السياسية وفي تشكيل مختلف السلطات(التشريعية والتنفيذية والقضائية).لكن غالباً هذا التمثيل يأتي مشوهاً وناقصاً،لأنه لا يأتي عبر آليات ديمقراطية،وانما يتم عبر تعيين واختيار ممن هم أكثر طاعة وولاءً للنظام السياسي القائم.في انتخابات quot;مجلس الشعبquot; لدورة 1990،خصص النظام 40% من نسبة مقاعد المجلس للمستقلين،وأتيحت الفرصة لانتخابهم بشكل ديمقراطي وحر.وقد فاز في تلك الانتخابات مرشحي الأحزاب الكردية والآشورية بمعظم مقاعد المستقلين في محافظة الحسكة.من بعد تلك الدورة ألغت السلطات السورية ذاك الهامش المحدود وبدأت تتدخل بشكل مباشر في اختيار وفوز المرشحين المستقلين.كما أن اعتماد quot;المحافظةquot;، دائرة انتخابية واحدة، يعتبر انحيازاً واضحاً لصالح الأغلبية العربية،لأن نظام quot;الدوائر الانتخابية الكبيرةquot; يضع عقبات وصعوبات،مادية وإدارية،كبيرة امام مرشحي الأقليات والمستقلين عموماً.

لا جدال على أن حزب quot;البعث العربي الاشتراكيquot;،وعلى مدى نحو نصف قرن، استطاع الإمساك بالمجتمع والتحكم بالمشهد السياسي السوري.لكنه أخفق في معالجة مشكلة الأقليات.لا بل أن خيار quot;الاندماج القسريquot; الذي تبناه وعمل عليه زاد من تعقيدات القضية وأفضى الى نتائج معاكسة لتلك التي أرادها وخطط لها البعث على هذا الصعيد.فالمشهد السياسي السوري الظاهر والممسوك به أمنياً يخفي تحته مشهداً مجتمعياً نقيضاً ونافياً له.يتجلى هذا المشهد الخفي والنقيض من خلال العودة المخيفة الى الاثنية و الطائفية والمذهبية والقبلية والى غيرها من أطر المجتمع الأهلي والتشكيلات البدائية الماقبل الدولة.الخوف من أن تتحول هذه التشكيلات الى quot;كيانات سياسيةquot; داخل الدولة السورية،كما هو حاصل في العديد من دول المنطقة.لكي نجنب سوريا من الانزلاق الى هذا quot;المشهد المخيفquot; وربما quot;القاتلquot;،على أهل الحكم من الأخوة البعثيين ومن الطبقة السياسية الحاكمة الذين يملكون زمام المبادرة وبأيدهم مفاتيح الحل،أن يلتفتوا الى quot;الوضع الداخليquot; لأنه الأهم وعليه يتقرر مصير ومستقبل البلد. من هذا المنظور الوطني أرى ضرورة أن يعيد حزب quot;البعث العربي الاشتراكيquot; النظر بكل مواقفه وخياراته السياسية والأمنية السابقة، وأن يضع ملف quot;مسألة الأقلياتquot;، الى جانب ملفات وقضايا وطنية أخرى مهمة وعاجلة،على طاولة مؤتمره القطري الحادي عشر المقرر عقده خلال أشهر،ليصار الى معالجتها معالجة سليمة في اطار وطني ديمقراطي وبما يحقق العدل والمساواة في المجتمع وتكافئ الفرص بين أبناء الوطن الواحد وبما يحصن مجتمعنا ويعزز وحدتنا الوطنية ويقويها في وجه التحديات والمخاطر الخارجية.

سوريا
باحث آشوري مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]