كانت هناك فرصة تاريخية أمام الرئيس جمال عبد الناصر، خلال عقد الستينات من القرن الماضي، لتحديد النسل في مصر. و لو فعل ذلك لتمكنت بلاده من السيطرة على قنبلة الانفجار السكاني التي أفشلت كافة البرامج التنموية التي جربتها مصر خلال العقود الأخيرة.

لم يكن عبد الناصر مطالبا بالقيام بأكثر من اعتماد و تنفيذ إستراتيجية تحديد النسل التي نفذها بكفاءة عالية الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، خلال نفس الفترة، و التي قامت أساسا على حملات توعية للمجتمع بأهمية المسالة كأمر حيوي لتنمية البلاد. و لو فعل عبد الناصر نفس الشيء في مصر و حقق بذلك نفس النسبة التونسية لزيادة السكان، خلال العقود الخمسة الماضية، لما تجاوز سكان مصر اليوم حاجز الــ 60 مليون، مقابل 78 مليون في الوقت الحاضر. و بإمكاننا أن نتخيل في هذه الحالة التحسن الذي سوف تكون عليه ظروف المعيشة لدى المصريين اليوم.

أصاب فشل عبد الناصر الذريع هذا مصر في مقتل. معدل دخل الفرد، مقدرا بالقدرة الشرائية للدولار الأمريكي لا تتجاوز اليوم 6347 دولار في مصر، أي 25% اقل من المعدل التونسي البالغ 8559 دولار. و قس على ذلك فيما يخص مؤشر التنمية البشرية الذي تنشره الأمم المتحدة حيث تأتي مصر في المرتبة 123 من مجموع 182 دولة في العالم، مقابل المرتبة 98 بالنسبة لتونس، و كذلك مؤشر الرفاهية حيث تأتي مصر في المرتبة 89 من مجموع 110 دولة في العالم مقابل المرتبة 48 بالنسبة لتونس (المصدر: (www.prosperity.com).

لكن يبقى السؤال لماذا فشل عبد الناصر في تحديد النسل على أهميته القصوى بالنسبة لمصر؟ أرى شخصيا ثلاثة عوامل رئيسية أدت إلى هذا الفشل. أولا، بقي عبد الناصر سجين خلفيته الإيديولوجية كعضو سابق في تنظيم الإخوان المسلمين، حيث الاعتقاد السائد quot;ما من دابة إلا و على الله رزقهاquot; حيث يغلب الاعتقاد إن ولادة الأطفال قضاء و قدر لا يحق للزوجة و الزوج التدخل فيه. ثانيا، لم يكن الهدف الرئيسي لعبد الناصر تنمية مصر بقدر ما كان يطمح إلى زعامة العالم العربي و حتى العالم الثالث، بدليل دوره الريادي في مؤتمر باندونج، لذا لم يكن ليرى الحكمة من تحديد النسل كأحد الوسائل لتحقيق هدف التنمية الذي لم يكن هدفه بالأساس. و ثالثا، ورط عبد الناصر مصر في عدة حروب، و ليس من صالح الدول تحديد النسل و هي حالة حرب.

لم يكن النمو السكاني السريع العامل الوحيد وراء تخلف مصر في جميع المناحي العلمية و الاقتصادية و الاجتماعية. كوريا الجنوبية تحولت إلى نمر صناعي اسياوي، منذ نهاية الستينات من القرن الماضي رغم نمو سكاني مرتفع، و حصل نفس الشيء في ماليزيا التي قطعت خطوات هائلة على طريق الحداثة و التقدم رغم نمو سكاني مرتفع و عمالة وافدة تجاوزت المليون عامل. فشل مصر في التراجع السريع عن السياسات الاشتراكية التي ثبت فشلها مثل الإصلاح الزراعي و تأميم الأنشطة التجارية و الصناعية فوت عليها القدرة على الاندماج مبكرا في الاقتصاد العالمي و الاستفادة من الأسواق الخارجية أسوة بدول مثل تونس التي توجهت نحو الصناعات التصديرية منذ سنة 1972 و دولة تشيلي التي عرفت إصلاحات اقتصادية جذرية على يد الجنرال بينوشيه منذ سنة 1973 حولتها إلى نمر جنوب أمريكي بامتياز.

لكن كل هذه الإخفاقات على مستوى الإصلاحات الاقتصادية لا تقلل من شان الفشل في تحديد النسل الذي لعب دورا هاما في إفشال كافة الخطط التنموية في مصر. و اليوم لن يكون بإمكان السلطات المصرية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن بإمكانها إتباع سياسة أكثر حزما لتخفيض نسبة الزيادة السنوية لعدد السكان من مستواها الحالي (1،8%) إلى ما دون 1%، و هو هدف قابل للتحقيق و من شانه لو تحقق فعلا مساعدة الدولة على تلبية احتياجات مواطنيها بصفة أفضل و مساعدة اقتصادها على النمو بصفة أسرع.
[email protected]