في صفحات التاريخ الكويتي الحديث ثمة صفحات مثيرة بأحداثها و تجلياتها وحتى شخوصها مثلت عصرا سياسيا ومرحلة مهمة من مراحل وحلقات التحدي الكبير التي جابهت الأمن الوطني الكويتي خلال العقود الأربعة الأخيرة من عمر التجربة السياسية والحياتية في الكويت وهي تجربة كانت تحمل معاني التحدي الكاملة و الإصرار التام على خوض معترك تحولات الحرب و الدبلوماسية في منطقة الخليج العربي التي دخلت منذ عام 1980 تحديدا في خضم أقوى ملفات الصراع الدولي و الإقليمي بعد أحداث الثورة الإيرانية و التطورات الناجمة عنها، و ماحدث من أحداث داخلية و إنقلاب سياسي عنيف في العراق و بشكل رتب المواقع و الملفات لأحداث جسام ستشعل المنطقة لاحقا و تؤسس لأكبر مجزرة إقليمية في العصر الحديث بعد تسارع الشد و الجذب بين القوى الإقليمية المتصارعة و المتناطحة، فقد كانت هنالك ثورة شعبية ضخمة في إيران نجحت في إسقاط عرش الطاووس و أدخلت إيران في حومة صراع داخلي شرس و محتدم بين التيارات الشعبية و الفكرية وحتى الدينية المتصارعة و المتلاطمة في بحور فرض الإرادة و بناء عهد مابعد إسقاط الحصون المنيعة لنظام إمبراطوري كان يمتلك مفاتيح و أدوات و ملفات صراع إقليمي مهمة وبين نظام إيراني جديد مازال يتلمس طريقه و يحاول إيجاد صيغة معينة لبناء نظام كانت آيديولوجيته حائرة بين مايكون و مايجب أن يكون وفي ظل صراع إيراني داخلي شرس بين إتجاهات فكرية متباينة تتراوح بين أقصى اليمين الديني المحافظ وبين أقصى اليسار المتطرف وبين بقايا الجبهة الوطنية القديمة وقوى الإسلام المخلوطة بالرؤى الإشتراكية و الماركسية وهي جميعها قوى ساهمت في إسقاط نظام الشاه ولكن كان لابد لتلك المشاريع و الأفكار و الأحلام المتضاربة أن تدخل في مرحلة كسر العظم للإنفراد بالسلطة بعد أن تعذر التفاهم المشترك وفشلت صيغة الجبهة السياسية المتحالفة، وهو ما أخرج كل العفاريت من قماقمها وحول الصراع الدولي وجهة الخليج العربي خصوصا بعد أن دخل الدب السوفياتي الراحل في عقد أفغانستان الجبلية المهلكة أواخر عام 1978 لدعم نظام شيوعي في أواسط آسيا لم يكن مرغوبا له أن يستمر و يشتد عوده في المراحل الزمنية الحاسمة من حقبة الحرب الباردة، في العراق تشكل مشروع فاشي كان يتم الإعداد له منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي و أنفرد في السلطة البعثية التي كانت تعاني من صراعات داخلية محتدمة النائب الأقوى صدام حسين بعد أن أطاح بجنرالات حزب البعث و قيادييه و كان آخر الجنرالات الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر الذي أبعد بإنقلاب قصر داخلي وطارت معه رؤوس العشرات من الكادر المتقدم في الحزب ومن أعضاء القيادة القطرية و القومية و مجلس قيادة الثورة ليكون صدام حسين وجماعته من العشيرة الذهبية الرقم الأول و الأخير في السلطة العراقية و ليباشروا في تنفيذ صفحات عمل إقليمية جديدة كان عمادها ومحورها بعد أن توتر الموقف الإقليمي بفعل تحديات الثورة الإيرانية وشعار تصدير الثورة هو العمل العسكري المباشر وبموجب مخطط دولي كانت ملامحه وخطوطه العامة مرسومة بدقة منذ نهاية حرب أكتوبر عام 1973 ومن ثم إندلاع نيران الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 وحتى إندلاع الحرب العراقية/ الإيرانية في 22 /9/1980، ولن نتوغل بعيدا في رسم وتصنيف المشهد السياسي و العسكري لتلك المرحلة بل سنقفز لتأثير تلك الحرب على الخليج العربي وعلى الأمن الإقليمي وحيث إشتعلت أشد مناطق العالم حساسية على صعيد الطاقة الدولية، وكان الخطاب السياسي و الآيديولوجي الإيراني واضحا في المناداة بإسقاط أنظمة المنطقة المحافظة و تأسيس الدولة الإسلامية على النموذج الإيراني، وكانت البداية مع التصعيد الإيراني في العراق عبر دعم ومساندة الأحزاب الدينية الطائفية العراقية التي كانت تعمل بصمت ولكن بفاعلية شديدة خصوصا و أنها كانت تؤسس مواقعها الشعبية مستغلة الهجمة البعثية ضد جميع القوى السياسية العراقية والتي كان آخرهم قوى اليسار العراقي والحزب الشيوعي العراقي الذي إنفصمت جبهته الوطنية الموقعة منذ عام 1973 مع حزب البعث أواخر عام 1978 وإضطرار الشيوعيين للهروب من العراق والإنسحاب شمالا في كردستان أو التسلل للخارج وهو ماحصل فعلا، كما أعطى النظام الإيراني إنطلاقة البدء للأحزاب الدينية وفي طليعتها حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي والمجاهدين العراقيين لما أسموه بالثورة الإسلامية في العراق! المترافق مع تصعيد عسكري ساخن على الحدود الدولية المشتركة مع تصاعد لهجة التهديدات المنطلقة من إيران تحديدا التي كانت تعيش وقتها صراع مراكز القوى وحيث كان الرئيس الإيراني الأول أبو الحسن بني صدر يصرح ببلاهة منقطعة النظير بأنه لن يستطيع منع جيشه من الزحف على بغداد!!
لقد كانت صفحات مريرة حفلت بتداخلات و أدوار سرية و ملفات غامضة لم يتح للرأي العام الإطلاع عليها بعد بصورة كاملة رغم مرور ثلاثة عقود عليها..!، المهم إن النظام العراقي كان يعد العدة لضربته الوقائية و التي يهدف منها أيضا للتخلص من ذل وعار إتفاق الجزائر الحدودي لعام 1975 وحيث سلم العراق السيادة على نصف شط العرب لإيران مقابل إيقاف نظام الشاه للدعم المقدم للحركة الكردية المسلحة في شمال العراق و التي إنهارت بالكامل بعد سحب نظام الشاه الراحل يده عنها!!، في عام 1980 كان واضحا بأن المشروع السلطوي العراقي الطموح كان سيقدم على خطوة ما كما زاد من وتيرة القمع وحملات الإعدام وممارسة التهجير على أسس طائفية محضة وبموجب برنامج وقائي كان يهدف لمنع أصحاب رؤوس الأموال و التجار من تمويل المعارضة المسلحة، وأرتكبت فظائع كثيرة وهذا الموضوع ليس محور مقالنا هذا، في المقابل كان الإيرانيون يدعمون المعارضة الدينية التي تخلت عن سريتها السابقة وأظهرت أنيابها و أعلنت الثورة المسلحة رغم عدم تكافؤ القوى، فنظام صدام كان في أقوى حالاته عسكريا و أمنيا و إقتصاديا وحتى شعبيا إضافة لتحالفاته الدولية وعلاقاته العربية و إعلامه المهيمن، فخسرت تلكم الأحزاب المواجهة التي كانت متعجلة وغير مدروسة بل كانت نتيجة لرغبة إيرانية ملحة..!، المهم هرب المعارضون الدينيون لحاضنتهم طهران وهناك برزت التناقضات و الخلافات بعد إندلاع الصراعات و الفشل في مهمة زعزعة و إسقاط النظام الذي أعلن الحرب رسميا على إيران بعد أن مزق إتفاق الجزائر الحدودي وقام بغزوته العسكرية في عربستان معلنا قيام ما أسماه ( قادسية صدام ) التي كان مخططا لها أن تكون شبيهة بحرب الأيام الستة بين العرب و إسرائيل عام 1967 تذعن بعدها إيران ويفرض العراق شروطه؟ ولكن ذلك كان وهما لم يحسب المخطط العراقي له حساب! إذ أن النظام الإيراني كان بحاجة ماسة لتلك الحرب لتوحيد الصفوف الداخلية و لتصفية الحسابات مع المعارضة اليسارية المتصاعدة و لتجييش الشعب من أجل تحقيق تلك الغاية، لذلك كان تعليق الخميني الأول على الحرب حين سماعه لأنبائها تلك العبارة المعبرة: الخير فيما وقع!!
فبدأت الدراما الإقليمية الدموية المروعة و التي إستمرت لثمانية أعوام دموية كئيبة و ثقيلة إلتهمت أرواح وأعضاء و أرزاق مئات الآلاف من الشباب العراقي و الإيراني و حفلت صفحاتها بملفات مخابراتية كان أهمها ملف تصعيد الإرهاب الإقليمي و الدولي و محاولة توريط أطراف أخرى في النزاع الطويل الذي تحول حقيقة لحرب منسية مكلفة! لم تكن في ألأفق أية إحتمالات لنهايتها السريعة خصوصا في ظل الشروط التعجيزية التي وضعها نظام الخميني لإنهاء الحرب وكان أهمها إسقاط النظام العراقي!!، وكان اللجوء للعمليات السرية و لبناء الخلايا السرية العاملة لمصلحة النظام الإيراني في المنطقة أحد أهم الأهداف ستراتيجية، و تشتت المعارضة العراقية أدى في النهاية لإنشقاقات كبيرة وواسعة في بنيتها التنظيمية و إنخراط بعضها في الجهد العسكري و الإستخباري الإيراني ضمن صفوف الحرس الثوري و إمتداد ذلك النشاط للعمق السوري بعد التحالف الستراتيجي بين نظامي الأسد و الخميني فأستطاع الإيرانيون تشكيل خلايا سرية من أتباع حزب الدعوة الذين إنشقوا عن الحزب بعد تدخل المخابرات الإيرانية وتم التخطيط لسلسلة من العمليات الإرهابية كانت ساحتها الرئيسة في لبنان التي كانت تعيش وقتها وضعا تقسيميا شاذا مع سيطرة إستخبارية سورية شبه مطلقة وتم تفجير السفارة العراقية في بيروت في خريف 1981 و أمتدت العمليات لتشمل دولة الكويت التي كانت المعارضة العراقية وقتها متواجدة عناصرها فيها بعد حملة الهروب الجماعية من العراق، ومع تصاعد الإرهاب الدولي الموجه خصوصا ضد الولايات المتحدة في المنطقة و إنفجار السفارة الأمريكية ثم العمليات الإنتحارية ضد قوات المارينز الأمريكية و القوات الفرنسية في لبنان عام 1983 تم إتخاذ قرار إيراني بتوسيع مدى العمليات ليشمل الخليج العربي و تحديدا الكويت فتم تجنيد أحد أعضاء حزب الدعوة وهو العراقي المدعو ( رعد مفتن عجيل ) البالغ من العمر وقتها حوالي 23 عاما و الطالب في جامعة حلب لتفجير مقر السفارة الأمريكية القديم في ( بنيد القار ) وتم إختيار يوم الإثنين 12/12/1983 كموعد لذلك الفعل الإرهابي و الذي سوف تحدث معه أيضا سلسلة من الأعمال الإرهابية ضد السفارة الفرنسية و ضد منشآت وطنية كويتية كمحطة الكهرباء و جوازات حولي و أماكن أخرى، وفعلا تم إقتحام السفارة الأميركية و عاشت الكويت أيام توتر مرعبة وكانت البداية الساخنة لسلسلة طويلة و متداخلة من عمليات الإرهاب و الإبتزاز كانت ذروتها في يوم 25/ مايوم 1985 حين حدثت محاولة إغتيال المغفور له أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح بسيارة مفخخة في شارع الخليج العربي بالقرب من المستشفى الأميري و التي إستعملت فيما بعد أدوات عديدة في الإبتزاز الإرهابي و منهم اللبناني عماد مغنية ودوره في خطف الطائرة الكويتية الجابرية من بانكوك و قبلها طائرة كاظمة!
إضافة لعمليات دعم الجماعات المسلحة التي إشتبكت في معارك محدودة مع قوات الأمن الكويتية... سيظل يوم 12/12/1983 يوما مشهودا و محفوظا في تاريخ و إرشيف عمليات الإرهاب الإقليمي الكبرى، و ستبقى مؤثرات و تأثيرات ذلك اليوم في الكويت و الخليج العربي من الملفات التاريخية الحساسة، و ستبقى الكويت تواجه تحديات أمنية كبيرة و خطيرة في ظل الصراع الإقليمي المحتدم الذي لم تحسم ملفاته بعد... تاريخ الإرهاب في الكويت و الخليج العربي ينبغي أن تظل ملفاته و أوراقه حاضرة على الدوام لإضاءة طريق المستقبل.
التعليقات