للأسف احدى أهم مشاكل العربي مع نفسه أولا، ومع العالم ثانياً هي فهمه الخاطيء لطبيعة السياسة مما أوقعه في كوارث مستمرة وخسائر متواصلة، فقد نظر العرب الى السياسة من منظور المسجد والأعراف العشائرية، وتم قياسها بمقاييس العلاقات الأجتماعية بين الأفراد، بمعنى أنهم استعانوا بمفاهيم الحق والباطل والعدالة وغيرها من المفاهيم والشعارات لتفسير وتحليل الأحداث السياسية، وتقييم سلوك الأفراد والدول، وهنا حصل التصادم ما بين عالم السياسة، وعالم المثاليات والشعارات.

فالعربي يريد تطبيق أحكام وشرائع المسجد، وماتعارف عليه في علاقاته الأجتماعية مع الأخرين على السياسة وخصوصا العلاقات الدولية، ويتجاهل حقيقة اساسية.. ان تحركات الدول وعلاقاتها وصراعاتها... تقوم على أساس ( موازين القوى والمصالح ) فمنذ بدء الخليقة والى نهايتها سيظل قانون الدولة القوية هي من تفرض شروطها على الدول الأخرى، وان العلاقات بين الدول تحكمها المصالح، ونلاحظ هنا في هذا التعريف الواقعي للسياسة.. الغياب التام لمفاهيم الحق والباطل والعدالة وغيرها من القيم الأخلاقية التي تحكم العلاقات الأجتماعية بين الأفراد وليس الدول.

وعلى ضوء هذا الفهم نرى العرب يحاكمون الولايات المتحدة الأميركية، ويريدون منها ان تمتثل وتنفذ أرادة ومفاهيم المسجد، والأعراف العشائرية، ونمط العلاقات الأجتماعية بين الأفراد.. يريدون كل هذا ان تطبقه أميركا وتتخلى عن بديهيات العمل السياسي، وعن مصالحها، فالعرب يطالبونها ان تتخلى عن تحالفها مع اسرائيل من اجلهم، بينما مصالح اميركا بحاجة الى هذا الحلف الذي كان اساسيا في صراعها الطويل مع الدول الشيوعية في المنطقة، والفكر القومي العربي، وحاليا مع إيران والإرهاب، فهل من المعقول تخلي اميركا عن مصالحها كدولة عظمى لديها أولوياتها من اجل ارضاء مجتمعات تفهم بشكل خاطيء طبيعة العلاقات الدولية؟!

ثم ان العرب في زمن الدولتين الأموية والعباسية سبق لهم ان طبقوا مفاهيم السياسة بحذافيرها، فهم لم يلتزموا بمفاهيم الحق والعدالة... وهجموا على الشعوب الأخرى واستعمروها ونهبوا ثرواتها وسبوا نسائها... وانصاعوا الى قوانين الصراع وتحكم القوي بالضعيف، علما ان أميركا لم ترتكب مثل تلك الجرائم التي ارتكبها العرب الأوائل بحق الشعوب الأخرى !

والمثير للغرابة في الوقت الذي يطالب العرب بالحق والعدالة.. ينسون أنفسهم ونرى بعضهم يرتكب جرائم الإرهاب والقتل الجماعي ضد أخوانه من المسلمين وايضا من اتباع الديانات الأخرى، فمن طبيعة العمى الأيديولوجي تبرئة الذات من كل عيب ومنقصة، وإلصاق الأخطاء والعيوب والجرائم... بالخصم كمبرر تستخدمه الأيديولوجيا لإدامة زخمها وتغذية نفسها بالحياة، فهي لاتستطيع العيش من دون كراهية و أحقاد توجهها صوب العدو المفترض!

لقد خسر العرب مليون ضحية في الجزائر بحجة حرب التحرير من الأستعمار الفرنسي ولم يسألوا أنفسهم : هل يستحق الأمر هذا الثمن، وألا توجد طرق أخرى لمعالجة المشكلة؟ وفي النهاية وجدنا الجزائريين يتدافعون امام السفارة الفرنسية طلبا للهجرة الى الدولة التي حاربوها، وتم الأستيلاء على السلطة في الجزائر من قبل مجموعة نهبت كل شيء وادخلت البلد في صراعات دامية، ونفس الأمر مع الانقلابات في مصر وسوريا والعراق وليبيا، فجميع الدوافع كانت خاطئة أغفلت الأولويات والمصالح والنظر بواقعية للأمور.

ولعل مثال فلسطين هو الأبرز على غياب الأدراك الواقعي، فمنذ عشرات السنين والخطاب السياسي العربي يردد نفس مقولات : الحق والباطل... بينما الصراع بين العرب واسرائيل ليس له علاقة بهذا، فهو صراع تنطبق عليه سنن التاريخ وبديهيات حركته.. فموازين القوى تميل لصالح اسرائيل في كل شيء، والسؤال الواقعي هو : بما أن اسرائيل دولة قوية فلماذا تقدم تنازلات للعرب من اجل شعارات الحق والباطل التي ليست لها علاقة بالسياسة؟

ولو قبل العرب بهذه الحقيقة.. وهجروا مفردات: الإذعان والأستسلام والخنوع وخيانة القضية الى أخر قائمة المفردات العشائرية، لو هجروا هذه الشعارات القاتلة لهم، وتعاملوا بواقعية مع اسرائيل لقبلوا بقرار التقسيم، أوعقدوا معاهدة سلام بعد هزيمة 1967 وأنتهى الأمر.

ولعل احدى افرازات الفهم الخاطيء للسياسة ظهور الإرهاب بحجة محاربة الظلم وغياب العدالة... فالإرهابي يفهم السياسة من منظور المسجد مما ولد هذا التصادم العنيف بينه وبين العالم وممارساته السياسية الواقعية مثلما هي منذ الأزل، والغريب ان الإرهابي في الوقت الذي يدعو الى العدالة والحق... ينفذ أبشع جرائم التخريب والقتل الجماعي للناس، ولاندري كيف تنسجم الدعوة الى العدالة بواسطة المفخخات والتفجيرات والقتل؟!

انها مشكلة غياب الرؤية الواقعية للأحداث والحياة، وسطوة مفاهيم خاطئة تقود الى نتائج خاطئة وخسائر متتالية وجرائم ارهابية شنيعة !

[email protected]