في أحد أيام إقامتي في أثينا، في أوائل الثمانينيات، فاجأني السيد quot;ديمتري سكولاسquot; رئيس هيئة السياحة اليونانية، على غير عادته، بمكالمة هاتفية يُطري فيها عليّ كثيرا بسبب ما كنت أنشره في صحف ومجلات عربية عديدة من مواضيع عن الحياة الثقافية في اليونان، ويطلب مني أن أقابله لأمر هام.

ذهبت إليه في الـيوم التالي ليفاجئني بطلـب غريب. قال: quot;نحن في صــدد تخصيص جزيرة ميكونوس لتكون جزيرة للعراة، بشاطئـين: الأول باسـم (برادايس)، وفيه يُخَيَّر مرتادوه بين التعري أو عدمه، والثاني باسم (سوبر برادايس) يُلزَم داخلوه بالتعري الكاملquot;. وطلب مني خدمة بسيطة، في نظره، تتلخّص في نشر مواضيع دعائية في الصحافة العربية تستدرج السياح العرب إلى جزيرة العراة.

ضحكت وقلت له: إن الحكومات العربية كلها تفرض رقابة مشددة على الصحافة. وحتى لو تساهلت الرقابة فمن الصعب أن أجد صحيفة عربية واحدة تقبل بنشر مثل هذه المواضيع، حتى لو دفعتم لهم الملايين؟quot;. فهي لن تجرؤ على ذلك، لا خوفاً من الرقابة ومن الحكومة، بل خوفاً من قرائهاquot;.

واستغرب quot;سكولاسquot; ذلك، وقبل اعتذاري، لكنه سألني بابتسامة حزينة، هل أنتم إلى هذه الدرجة من التخلف؟.

بعد أيام تفجرت معركة حامية حول هذه المسألة، بين الحكومة الاشتراكية التي كان يرئسها جورج باباندريو والد ريس وزراء اليونان الحالي، وبين الكنيسة اليونانية. فالحكومة تدافع عن قرارها، وتؤكد إصرارها على افتتاح الجزيرة. أما الكنيسة فتعترض وتهدد باللجوء إلى القضاء، لمنع استحداث مثل هذا الفجور في اليونان.

وفي 22 /7/ 1983 تجرأت صحيفة القبس الكويتية فنشرت لي تحقيقاً مصوراً بعنوان quot;أزمة في اليونان سببها جزيرة للعراةquot;.

ولم تمر سوى أسابيع حتى كلّمني السيد quot;سكولاسquot; وهو مستبشر وسعيد ويشكرني ويقول: quot;لقد حدث ما لم يكن في الحسبان. لقد تدافع العرب إلى اليونان. ومن مطار أثينا يبحثون عن طيران ينقلهم إلى جزيرة ميكونوس، دون المرور بالعاصمة. لقد هزتهم الأريحية، وجاءوا ليكتشفوا ذلك الفتح العظيمquot;.
تذكرت هذه الحكاية اليوم وأنا أقرأ تصريحا لمحافظ بغداد، وهو أحد قادة حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس تحالف دولة القانون السيد نوري المالكي، يزعم فيه أن إقدامه على غلق محال المشروبات الكحولية والنوادي الليلية في بغداد سببه عدم حصولها على إجازات رسمية، أو لكونها خالفت الضوابط.

وبشرنا المحافظ الذي يجلس على كرسي سلفه (خال الحزب والثورة الراحل خيرالله طلفاح)، بان المحافظة تلقت، أيضا، مخاطبات من هيئة السياحة ومن مجلس النواب، ومناشدات عديدة من المواطنين، طالبوا فيها المحافظة بضرورة غلق محال الخمور والملاهي الليلية، لأنها انتشرت في المناطق السكنية، وتَعرض صوراً تخدش الحياء والاداب والذوق العام.

إذن فالضوابط هي السبب الحقيقي لتلك القرارات المخجلة والمخيفة في آن. فهي أمور نسبية تختلف من شخص إلى شخص، ومن ملة إلى أخرى.

فما يراه المحافظ خدشا للحياء والآداب والذوق العام يراه غيرُه ديمقراطية وتحضرا وتحررا وخلاصا من ديكتاورية خير الله طلفاح وتخلفه ونفاقه. فمن يسرق المال العام، ومن يقتل الناس بالشبهة وعلى الهوية، ومن يصادر حقوق عباد الله وحرياتهم بالباطل، لا يمكن أن يكون أمينا على دين، ولا على مبدأ، ولا على عقيدة، ولا يمكن أيضا أن يكون حريصا على حماية الذوق العام والحياء ومخافة الله.

لا أدافع هنا عن الخمرة وشرابها، ولا عن النوادي الليلية، وأرفض بقوة تجاوزات البعض في ممارسة حرياتهم إلى الحد الذي يجعلها عدوانا من نوع آخر على حريات غيرهم من المواطنين، لا يقل ظلما وتخلفا عن ظلم المحافظ العزيز تخلفه الكبير.

ترى ماذا جرى وماذا يجري في عراقنا هذه الأيام؟ إن زعماءه الجدد يعودون به سنين طويلة وعديدة إلى الوراء، ويلقون به في وحول التخلف والتزمت والظلام، بعد أن كان يظن أنه أزاح عن أهله كوابيس حكامه الراحلين.

ففي طول العراق وعرضه، وعلى امتداد تاريخه الطويل، من أيام أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، وحتى هولاكو والصفويين وبني عثمان، ظل العراقيون أحرارا في عقائدهم وفي أساليب حياتهم. فتزحف الملايين منهم، كل يوم، إلى المساجد والحسينيات، لكن تسهر ملايين أخرى منهم في نوادي الليل وتقرع الكؤوس بالكؤوس، دون أن يزعجها أحد من حكام ذلك الزمان.لكم دينكم ولي دين، وحساب هذا وعقاب ذاك لدى الله وحده دون شريك.

فإذا كان السيد ديمتري سكولاس سألني، في أوائل الثمانينيات، هل نحن متخلفون إلى هذه الدرجة، فما عساه يسألني لو قرا تصريح محافظ بغداد دام ظله وظل حزبه وقائده الأمين؟!!