الموت.. هذه اللفظة الفاصلة بين قيثارة الحياة، وعشقها، وبين لحظة خمود العيون وجحوظها الآسر.. حيث تفيض الروح من الجسد، وتثور رغبة الإنسان كبركان هائج أن يعيش ولو للحظات وهنيهات أخر، وفي تلك اللحظة يسرع شريط الذكريات في صور خاطفة، وتستيقظ منطقة العتمة في مكان ما لتضييء هذه الهنيهات، وترسل وميضها اللذيذ في غابة السعادة التي ترفض التصحر والتقفر.
الموت.. هذا السمُّ الزعاف الذي يذيق كأسه لكلِّ كائن على وجه البسيطة، ويبحث كلُّ من تدب حلاوة الروح في خلاياه للبحث عن عشبة الحياة والخلود لكن لاجدوى..
هذا الموت الذي يرعب أعتى الجبابرة.. كان بالنسبة لصلاح برواري - الصديق الحميم - خصماً يستحق الشفقة.. فمنذ أن وعى صلاح كان في عراك يومي مع الموت..
ولأنه كان جديراً بالحياة هزم الموت، لقد حاول صلاح كما كلِّ الكبار أن يكون له صوته، تكون له بصمته، وإن شئت قبلته على خدِّ الحياة.. عندما انتصر صلاح على ظروفه الصعبة، وغربته ووحدته، وانقطاعه من شجر الأهل، حيث يسمع كل يوم نبأ رحيل عزيز.. انتصر على الموت..
عندما حاول صلاح برواري أن يعقد مودة مع الأوراق والأرق والسهر والتأليف والترجمة بروح وثابة لا تكلُّ.. هزم الموت..
صلاح كان عالياً كنخلة، quot; بسيطاً كالماءquot;، ينظر وقتَ السحر وكل وقت إلى الأفق البعيد، والآماد الفسيحة حيث لا ظلَّ إلا للإبداع والنقاء والعذوبة الإنسانية.. صرع الموت، ونظر إليه بعين الازدراء رافعاً هامته كجبل جودي.
مساهمةُ صلاح في الحياة مكتوبة بأحرف أنيقة على دفتر الحياة، لذا كان خطُّهُ يتحسَّن في إشراقة كل صباح، وكانت الريشة ترقصُ بين أنامله البيضاء.. البيضاء وهي تعلن لحظةَ الاستحواذ على الجمال.. لحظة الإنسان في حلته البهية.
اليوم.. هذا الصباح وأنا أحاول أن أنفضَ عن عيني بقايا الألم المتراكم، وأتحضّرَ لمحاولة البحث عن نبيذ السعادة ولو في كوز قابل للكسر والتهتك في أية لحظة، رنَّ هاتفي، فلمحتُ اسمَ صلاح برواري على الشاشة، انتفضَ قلبي، نسيتُ تماماً وكلياً أن صلاح الآن نائم تحت عريشة الثرى، موارى جسداً والباقي روحاً وضحكاً وألقاً.. لم أشأ أن أفتحَ التلفون، كان كلُّ عِرْق في جسدي ينتفضُ ويرقصُ فرحاً على عودة الصديق الحبيب، وأيقنت لوهلة أن الكروب التي آلمتنا في قليلات الأيام الراحلة كذب وافتراء، بل محضُ مِزْحة.
ارتعشت أصابعي وهي تزحف لتسمعَ صوتَ صلاح الذي نعسَ في الفترة الأخيرة، تخيّلتهُ سيقول: مرحباً أحبابي.. مرحباً أيها الرائعون.. كنتُ في لحظة بحث عن أوكسير المَسرَّة، وها عدت، لا يحمل قلبي الواهن ضغينة لأحد، للذين كانوا جاحدين معي شكراً.. للذين نسوا أنني قدمتهم، وأن لي فضلاً على حياتهم بشتى شعابها.. شكراً.. للذين ناصبوني العداء لأنهم كانوا غارقين في موت النوم، وأنا كنت أستلذ بالحريق الذي يأكل أطراف أصابعي رغبة بحياة أجمل أقول: شكراً.. للذين كانوا هامشاً وفاصلة منسية في جملة الحياة، فأخذت بيدهم، وساعدتهم، وأحببتهم، رغم أن بعضهم عضَّ على أصابعي حينما كنت حياً، والآن وأنا حي.. أيضاً شكراً..
وللذي ذمَّ من كتبوا- أصدقائي الخُلَّص- بحقي كلاماً حزيناً متأسياً لأني كنت أخبئ له ولهم شهدَ الانشراح لقادمات الأيام، أقول له ليس على مضض: شكراً..
وأقول له: أصدقائي الذين رثوني، والذين بكوني دماً.. كانوا أوردة قلبي.. كنت أحبُّهم بعمق ويحبونني بعمق، لم يكونوا، ولم أكن طارئاً في حياتهم، هؤلاء ليسوا بحاجة لينبشوا عن خصالي وquot; خصائصيquot; إنّهم عنوان كبير في دفتر حياتي، وبالتأكيد في دفتري حتى بعد رحيلي عنهم.
منهم من كتب عن آثاري الأدبية، ومنهم من كتب عني حين داهمني المرض اللعين، ومنهم من آذرني، ونبعَ عزيمتي من ماء زياراتهم وتلفوناتهم وقلقهم العظيم علي، وأنا أصارع الموت.
هؤلاء الأحبة.. عرفوا قدري وأنا حي، وتأكدوا ndash; وتأكدتُ- من نبل وصدق مشاعرهم وأنا أهمُّ بالرحيل السرمدي. لكن رغم كل ذلك... شكراً كبيراً.
اليوم.. كاد قلبي أ ن ينفطر طرباً.. وهو يرى، ويحسُّ، ويشمُّ اسم صلاح برواري.
أخيراً تشجعت، وفتحت التلفون:
خرج صوتي مكسوراً متهدجاً.. قال لي آلان ndash; ابن الراحل- في شي خالو؟! قلت: توقعتك صلاح
فبكى، وضحك في اللحظة ذاتها
قصصتُ هذا الكلامَ على إبراهيمنا.. ومَن غيره؟؟
قال : يا الله!!
آلمتني.. أبكي الآن.. أرتعش الآن.. كلُّ مسام فيّ لا أعرفُ ما جرى له؟
وقال أيضاً: كان رقصُ قلبك ضرورياً.. ولو لم تقل ذلك لزعلتُ منك.. أرجوك، اكتب ما شعرت به.. وليكن العنوان: هاتف من صلاح برواري.
نعم لصلاح برواري الذي قال للموت كأخيه في الإنسانية نيسن: تعال أيها الموت باحترام.. فأنا بانتظارك.. نحني هاماتنا.. ونصلي لراحة الجسد والروح.
التعليقات