كلما نظرت الى ما يقوم به السيد المالكي وحزب الدعوة، ومن خلال متابعتي لأدائه وأداء حزبه السياسي منذ 2003 وحتى الآن، يحضرني ماضي قريب، وتعود بي الذاكرة الى ما قامت به شخصيات وأحزاب سياسية عراقية باتت اليوم جزئاً من تأريخ العراق الحديث. فلقد إستطاع حزب الدعوة، بعد أن نَسَبَ له النظام السابق عَن وعي أو عَن غباء أغلب النشاطات المُعارِضة التي كانت تقوم بها تنظيمات المُعارَضة الإسلامية الأخرى كمنظمة العمل الإسلامي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وجيّرَها بإسمه، وبعد أن كان بعيداً عن أغلب تحركات قوى المعارضة العراقية الأخرى التي سبقت سقوط النظام السابق، خصوصاً مع الغرب والولايات المتحدة، إستطاع وفي غفلة من الزمن أن يصبح مُنتِج ومُصَدّر ليس فقط وزراء بل ورؤساء وزارات العراق الجديد!، رغم أنه حزب لا تتمتع أغلب كوادره بالكفاءة وليسوا من حملة الشهادات. وإذا كان الدكتور الجعفري الذي فشل سابقاً في القيام بأعباء هذا المنصب هو فعلاً دكتور، وإن لم يُعرَف عنه كفائته وتميزه بمجال الطب لأنه حسب معلوماتي المتواضعة لم يمارس المهنة وربما مارسها لفترة قصيرة جداً، فإن خلفه المالكي ليس من الكفائات العلمية والنخب الثقافية والسياسية أصلاً، إذ لم نقرأ له يوماً مقالاً سياسياً أو فكرياً، كما لم نسمع بأنه قد قام بنشاط يشار إليه بالبنان طيلة فترة معارضته للنظام السابق، وكل ما نعرفه عنه هو أنه حاصل على شهادة جامعية بأصول الدين واللغة العربية وكان موظفاً في تربية مدينة الحلة، ثم من كوادر حزب الدعوة ومسؤولاً في سوريا، فإذا به في الليلة التي سبقت إعدام الرئيس السابق صدام حسين يُخرج لنا من جيب سترته قلماً إدعى بأنه كان محتفظاً به لهذه الساعة، موحياً لبعض البسطاء علمه المُسبق بأنه سيصبح رئيساً لوزراء العراق بعد سقوط نظام صدام، وبأنه وليس غيره من سيقوم بإعدامه. هنا أسأل السيد المالكي ماذا كان سيفعل لو لم يكن حينها رئيساً للوزراء؟ وما المصير الذي كان سَيَؤول إليه قلمه السحري الذي لم يَجف حِبره؟ وهل كان سيُهديه لرئيس الوزراء المعني ليوقع به على الإعدام؟. يعلم السيد المالكي جيداً بأنه لم يكن ليحلم يوماً بمنصب رئيس الوزراء أو حتى بمنصب وزير، بدليل انه وحتى الأسابيع الأخيرة التي سَبَقت توليه لهذا المنصب بصفقة نَعلم جيداً كيف طُبخَت، تَنَقّلَ بين مجموعة مناصب بعيدة عن الوزارات ورئاستها، بدئاً من عَمَلِه كعضو مُناوب للدكتور الجعفري أيام مجلس الحُكُم سيء الصيت، ثم رئيساً للجنة الأمن والدفاع بالجمعية الوطنية، وأخيراً عضو لجنة صياغة الدستور، بالإضافة الى عمله لفترة كنائب رئيس لما كان يُسمّى بهيئة إجتثاث البعث بدرجة وكيل وزير، علماً انه كان قد عقد العزم بالأشهر الأخيرة التي سبقت إسقاط نظام صدام على ترك العمل السياسي، واللجوء لإحدى الدول الأوروبية حسب مصادر مُقرّبة. لقد نجح السيد المالكي وحزبه منذ 2005 وحتى الآن وبدهاء في تحييد جميع الأحزاب العراقية، سواء التي كانت معه أو ضده. فما فعله المالكي نائب رئيس حزب الدعوة سابقاً ورئيسه حالياً مع الدكتور الجعفري رئيس الحزب سابقاً والذي كان رئيساً للوزراء قبله، وهي تذكرنا بلعبة سبقتها بثلاثين عاماً فعلها نائب مع رئيسه. أما المجلس الأعلى، الفصيل الأقوى والأكثر تأثيراً في المعارضة العراقية حتى الساعات الأخيرة التي سبقت سقوط النظام السابق، فهو حالياً في حال لايحسد عليه، إذ أين هو اليوم من الخارطة السياسية العراقية؟ هل هو لاعب أساسي فيها ؟ كلا بدليل فشله خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت تشكيل الحكومة الحالية بجذب الحلفاء الى جانب تحالفه مع العراقية، بدئاً من أقرب المقربين إليه ومَن هو جزء منه وأقصد فيلق بدر الذي شق عصى الطاعة منذ اللحظة الأولى بدعمه لترشيح المالكي بالضد من ترشيح الدكتور عادل عبد المهدي، ليلحق به بعد أيام حزب الفضيلة ويدعم ترشيح المالكي لولاية جديدة، نعم للمجلس تأثير معنوي إجتماعي ورصيد في الشارع العراقي يفوق بأضعاف ما للدعوة، لكن سطوة القوة والنفوذ هي لدى حزب الدعوة وزعيمه نوري المالكي، وسرعان ما ستفقد السطوة الروحية للمجلس وزعيمه السيد عمار الحكيم تأثيرها أمام سطوة القوة والجاه والنفوذ، لذا فالأسلم للمجلس الأعلى هو عدم الدخول ضمن تشكيلة الحكومة الحالية وإختيار المعارضة التي خبرها جيداً ليحافظ على رصيده في الشارع العراقي.ونأتي الى التيار الصدري صاحب الجماهير المؤمنة التي كان ينبغي أن لاتُلدغ من جُحرٍ مرتين، لكن التيار الصدري لم يتذكر هذه الحكمة حين أقدم على دعم ترشيح السيد المالكي وللمرة الثانية لمنصب رئيس الوزراء، وهو الذي فعلها قبل أربع سنوات وكان جزاءه من المالكي يوم كان ضعيفاً صولة زجّت بكوادره في السجون و المعتقلات وضربت جماهيره بالمدافع والهاونات، والله أعلم ماذا سيفعل المالكي إن قويت شوكته في المستقبل القريب مع الصدريين وجماهيرهم التي نعلم جيداً أنها(متكعد راحة). ثم نأتي للتحالف الكردستاني الذي لعب دوراً محورياً وأساسياً في حلحلة الأزمة التي عاشتها القوى السياسية العراقية خلال الأشهر الماضية،وذلك من خلال المبادرة المخلصة للسيد مسعود البرزاني،التي وبغض النظر عن إمكانية نجاحها على المدى القريب، إلا أنها على المدى البعيد غير ناجحة، لأنها إستخدمت سياسة الترقيع ولم تعمد لحل المشاكل العميقة التي تعانيها العملية السياسية من جذورها، بل إكتفت بالترضيات والوعود التي لن ترى النور ولن يُطبّق منها شي، وكان الأولى بالتحالف أن يحسم خياراته بشكل مختلف ووفق رؤية ستراتيجية بعيدة. وليكن مِسك ختامنا مع العراقية، هذه الكتلة السياسية التي مَثلت بتشكيلها قبل الإنتخابات الأخيرة آخر بصيص أمل للعراقيين بمستقبل مشرق، والتي حاولت عبثاً وبأسلوب حضاري أخلاقي طيلة الأشهر الماضية أن تحافظ على مكتسباتها وإستحقاقاتها الدستورية التي حصلت عليها بأصوات ناخبيها من أبناء العراق بشرائحهم المختلفة وسط شركاء يكيدون لها ويتقنون الغش والخداع والضرب من تحت الحزام بعيداً عن أخلاقيات العمل السياسي القانونية والحضارية التي لايعرفونها، وكانت النتيجة قبولها بالإتفاق الثلاثي الذي جرى توقيعه من قبل الدكتور علاوي والأستاذ البرزاني والمالكي، وهو برأيي إتفاق لن يرى النور، وسيُفرّغ من محتواه، وسيستمر المالكي وحزبه بالمماطلة حتى يَمِل الدكتور علاوي ومن ورائه العراقية من تنفيذه. وهنا أسأل العراقية وقادتها.. كيف وثقتم بالرجل؟ أليس هو نفسه الذي كنتم ترفضون الدخول معه في حكومة واحدة طوال الأشهر الماضية لأنه لايحترم المواثيق وينقلب عليها؟ هل تريدون إقناعنا بأنكم فوجئتم بموقفه وموقف قائمته في جلسة البرلمان الأولى!. إنكم اليوم أمام ثلاث خيارت، إما قبول الأمر الواقع والبقاء بالحكومة الحالية والتفرج على ما سيفعله المالكي دون قدرة على التأثير والتغيير الذي وعدتم به جماهيركم التي إنتخبتكم لهذا الغرض، وإما مقاطعتها والجلوس في مقاعد المعارضة الى جانب المجلس الأعلى وربما مستقبلاً التيار الصدري وغيره من التيارات التي ستعض أصابع الندم يوم لا ينفع ندم على دعمها لترشيح المالكي والمشاركة في حكومته، أو تعليق عضويتكم في البرلمان والإنسحاب منه وطلب تدويل القضية العراقية وإعادة الإنتخابات تحت إشراف ومراقبة المنظمات الدولية والأمم المتحدة، وبرأيي الخيارين الثاني والثالث أسلم لكم لأنكم ستكونون حينها قد وقفتم الى جانب الشعب الذي إنتخبكم، فبقائكم في الحكومة يعني وقوفكم بالضد من أماني شعبكم ومصالحه وتطلعاته بل ومشاركتكم في تدميره مع حكومة لم ينتخبها الشعب وبالتالي فهي ليست حكومة الشعب ولا تمثل أبنائه. جموح سلطوي واضح وجنوح نحو التفرد بالسلطة والديكتاتورية، هذا ما تكشف عنه بوضوح عبارة السيد المالكي(هوة يكدر واحد ياخذهة حتى نطيهة بعد)قالها السيد المالكي قبل أشهر وفي وقت مبكر فقد قفزت من فمه في لحظة غرور وإنتشاء بهوسة أطلقها أمامه أحد الشيوخ شبيهة بالتي كان أمثال هذا الشيخ يرددونها على مسامع من سبقه. فهو لن يعطيها حتى وإن إضطره الأمر لحرق ما تبقى من العراق على غرار سلفه الذي لم يقلها مبكراً كالسيد المالكي، بل قالها متأخراً وبدهاء وبشكل أكثر صراحة يوم بات سيد الموقف و الحاكم بأمره بعد أن قام بتصفية شركائه السياسيين وأقرب المقربين إليه، فحينها قال وجميع العراقيين يتذكرون (والله ما أسلمها إلا والعراق كاع)، وفعلاً لم يُسَلّم سلفه السلطة إلا والعراق شبه دولة بل وأطلال وطن، ويبدوا أن المالكي ومن معه ولسان حالهم يقول لمن سبقهم (نحن السابقون وأنتم اللاحقون)ينوون أن يجهزوا على ما تبقى من هذه الأطلال وإنهاء شيء إسمه الدولة العراقية وإلغائها من الخريطة أصلاً. لقد بات واضحاً اليوم وبشكل لا لبس فيه ان السيد المالكي وحزبه يسعون للإنفراد بالسلطة، فقد بدأ المالكي السعي لهذا الهدف بخطوات مدروسة خلال السنوات الأربع الماضية مستغلاً منصبه كرئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة، وهو يسعى اليوم للوصول اليه بخطوات ثابتة بعد أن حافظ على منصبه وثبت نفسه فيه لأربع سنوات قادمة ستمكنه في حال سارت الأمور وفق ما يشتهي لتحقيق ذلك. وهنا تتبادر الى الذهن مجموعة من الأسئلة المهمة منها.. هل نحن أمام أعادة إنتاج لضاهرة القائد الضرورة الواحد الأوحد وهبة السماء في الزمن الصعب ولظاهرة الحزب القائد؟ وهل سيعيد التأريخ نفسه بأحداث مشابهة ولكن بوجوه ومسميات جديدة مختلفة؟ وهل سيتكرر سيناريو سبعينات القرن الماضي؟ والسؤال الأهم هو.. هل سيقف شركاء المالكي الذين كانوا بالأمس البعيد وسيلته للوصول الى منصب رئيس الوزراء، وبالأمس القريب وسيلته للحفاظ عليه لأربع سنوات قادمة مكتوفي الأيدي، وهم يشاهدون الرجل وهو يثبت أقدامه بالسلطة ويستولي على أغلب إن لم يكن جميع مفاصلها، فيما يركنون هم شيئاً فشيئاً على الرَف قانعين بترضيات صغيرة لا يرضى بها أحد، بإنتظار أن يحصل لهم ما حصل لمن سبقوهم في السبعينات، وليُمسوا بين ليلة وضحاها إما مغيبون أو مطاردون من جديد في أصقاع الأرض المختلفة؟ وهل سينخدعون به كما إنخدع البعض بمن سبقه قبل ثلاثة عقود؟ فوصفه بعضهم بكاسترو العراق ودخلوا معه في جبهات وطنية كانت نهاياتها حمامات من الدم وسجون ومعتقلات وعقود من المنافي، فيما وقع معه البعض الآخر الإتفاقيات التأريخية التي سرعان ما إنقلب عليها وعليهم وكانت النتيجة التي نعرفها جميعاً. إنه التأريخ يعيد نفسه كشريط سينمائي. شخصيات وأحزاب سياسية مغمورة تدّعي الجماهيرية والنضال، وترفع شعارات تدغدغ بها مشاهر العوام منهم بشكل خاص. تتسلق حبال السلطة في غفلة من الزمن بدفع ودعم من هذه العوام، ويحاول الأقوى منها كسب من بالإمكان وتصفية وتسقيط من ليس بالإمكان كسبه من الشركاء، ثم يبدأ الصراع فيما بينها ويُصَفّي القوي منها الضعيف. فجأة ومن خلف الكواليس يظهر القائد والزعيم المنقذ الذي كان قد طَبَخَ وليمته على نار هادئة أمام أنظار شركائه الذين سرعان ما سينقلب عليهم بعد أن يقطع لهم الوعود ولايحققها ويوقع معهم الإتفاقيات ولاينفذها، فهم في كل زمان ومكان لايتعضون من دروس التأريخ وتجاربه وعلى رأسهم رئيسه الذي أوصله للسلطة، ثم يَشرَع بالإستيلاء والسيطرة على مفاصل الدولة والإستحواذ على مراكز صنع قرارها، ليصبح بين ليلة وضحاها رئيساً مكرراً دائمياً لسلطتها التنفيذية بغض النظرعن مسمياتها، و قائداً عاماً لقواتها المسلحة، ومسؤولاً عن أجهزة أمنية خاصة لاتأتمر إلا بأمره، ويحيط نفسه بحاشية من الأقارب والأصحاب الذين يرتبط معهم بتأريخ ومصالح وأسرار مشتركة، فيبدأون بشراء البلاد وبيعها، و التحكم بخيراتها وبشعبها على هواهم وحسبما يحلو لهم. عذراً لقرائي الأعزاء إذا كنت قد أنهيت مقالي هذا بفلم رعب سينما سكوب، ولكنها أقدار العراق المظلمة المحتومة التي يبدوا بأنها لا تريد أن تفارقه، ودورة تأريخه الدموي التي تعيد نفسها بين حين وآخر، وسُنة حياة شعبه المؤلمة المأساوية التي تترائى اليوم أمام عيني ككابوس مرعب.
- آخر تحديث :
التعليقات