من الذي تسبب في الأحداث المؤسفة التي شهدتها بلدة العمرانية التابعة لمحافظة الجيزة المصرية؟ الإجابة الأمينة على هذا السؤال تقود حتماً لمعرفة الأيادي التي تعبث بأمن وسلام واستقرار مصر. أما الإجابات الكاذبة فلن تفيد ولن تفضي إلا للمزيد من الأوجاع والألام. الإجابة الأمينة الوحيدة التي أجدها للسؤال هي أن مسئولية الاحداث الطائفية الحالية والسابقة يتحملها النظام الحاكم في مصر بكل مؤسساته وأجهزته وهيئاته التي فقدت مؤهلاتها كسلطات شرعية فراحت تتخبط في إدارة شئون البلاد. لجأ النظام الحاكم لاستخدام أدوات التطرف الديني للحصول على دعم وثقة شريحة لم تعد أبداً صغيرة في المجتمع المصري، وكان على رأس هذه الأدوات قمع الأقباط وتقييد حرياتهم ومعاملتهم كسكان لا كمواطنين لهم كل الحقوق.

استمرأ النظام في مصر لعبة التطرف حتى أصبح بذاته متطرفاً مع مرتبة الشرف وأصبح في سلوكه ومواقفه معادياً للمسيحية والمسيحيين. ظهرت أعراض كثيرة للتطرف على وجه النظام، وكان من بين هذه الأعراض حالة الذعر والرعب غير المبررين التي يصاب به كلما شرع المسيحيون في بناء أو حتى ترميم كنيسة للتعبد وأداء الصلوات. وهذا ما حدث في العمرانية، إذ بعد أن بدأ الأقباط في بناء قباب للمبنى حتى كانت أجهزة محافظة الجيزة ترسل قوات مدججة بالسلاح للهجوم على المسيحيين العاملين بموقع البناء.

لا يمكن أبداً لوم المسيحيين على بناء كنيسة سواء كانت كنيسة مستقلة أو كنيسة ملحقة بمبنى خدمات كما تدعي أجهزة المحافظة. يقول محافظ الجيزة ورئيس مدينة العمرانية أن المسيحيين حصلوا على ترخيض ببناء مبنى خدمات ولكنهم خالفوا التصميمات التي تمت الموافقة عليها وحولوا المبني إلى كنيسة. لست على دراية تامة بأصول الموضوع وإذا ما كان ترخيص المبنى خدمي أو كنسي، ولكني لا أجد فارقاً بين الحالتين لأن لا مبرر على الإطلاق للخوف من بناء دور عبادة يدعو للحب والسلام لا الكراهية والفتنة.

لست أدري لماذا يقيدون حرية المسيحيين في الوقت الذي يستطيع فيه المسلمون بناء مساجد في كل زوايا وأركان مصر. المسلمون قادرون على بناء مساجدهم أينما شاءوا وقتما أرادوا، بل أن كل مؤسسة وهيئة ومصلحة وشركة ومصنع مركز شباب يقوم ببناء مسجد ملحق لخدمة المسلمين. لماذا إذن التفرقة، ولماذا منع المسيحيين من بناء كنائسهم؟

يلوم المسئولون المسيحيين لما قالوا أنه عدم التزام بالحصول على ترخيص لبناء الكنيسة محل الخلاف؟ أية تراخيص يتحدث عنها المسؤولون؟ هل هناك قانون لدور العبادة في مصر؟ هل يحصل المسلمون على تراخيص رئاسية وتصريحات أمنية لبناء مساجدهم؟ المسألة ليست قانون أو ترخيص، المسألة هي رغبة المسؤولين المتطرفين في تقييد المسيحيين والتضييق عليهم حتى يملّوا أو يتعبوا أو يكفوا عن اتباع دينهم. أعلم أنه قد يقضي مسيحي عمره قبل أن يرى كنيسة يكتمل بناؤها.

المثير والعجيب أن أجهزة الأمن في مصر تحركت عن بكرة أبيها للهجوم على المسيحيين في العمرانية في الوقت الذي لم تحرك فيه ساكناً عندما شن عدد من المسلمين اعتداءات وحشية على ممتلكات المسيحيين في قرية النواهض بصعيد مصر ليلة عيد الأضحى. وكم كان مؤسفاً أن تقوم قوات الأمن بإلقاء الحجارة على المسيحيين المحتجين على وقف أعمال البناء، كما كان مخجلاً ان تسمح قوات الأمن لمدنيين بالاشتراك في إلقاء الحجارة على المسيحيين.

لم تعد القضية أن الحكومة المصرية ترضخ للمتطرفين الذين يرفضون وجود أية مظاهر للمسيحية في مصر، لكن القضية أصبحت أن متطرفين أنفسهم وصلوا إلى أعلى مراكز السلطة في مصر وأصبحوا يتسلّطون على الأقباط المساكين الذين لا ظهر لهم. لم يعد هناك معتدلون على رأس السلطة في مصر إلا أقل القليل بينما تبنت الغالبية العظمى من رجال السلطة التطرف الديني المقيت.

لعلها المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يواجه فيها الأقباط قوات الأمن، فقد اكتفوا في الماضي بالصمت على الاضطهادات التي تواجههم. لم يشكل الأقباط تحدياً يذكر للنظام حتى حين تعرضت كنائسهم ومنازلهم ومحال أعمالهم للتخريب و حين اختفت فتيات مسيحيات وحين رفضت السلطات التصريح لهم ببناء الكانئس. كان أقصى رد فعل مسيحي على معاناتهم هو التجمع في الكنائيس الكبرى وبخاصة في المقر البابوي لرفع صوتهم لقيادتهم الكنسية.

تسكت الدولة المصرية على كل مظاهر التطرف التي يمارسها أئمة مسلمون من مساجد غير مرخص لها. استمعت قبل أيام قليلة لخطبة جمعة لأحد المشايخ المتطرفين المشهورين الذي كال اتهامات غريبة للكنيسة المصرية. اتهامات كاذبة وعبارات جارحة يعاقب عليها القانون إذا قالها الشيخ في دولة تعرف القانون. سب الشيخ المتطرف المسيحيين وقام بالدعاء ضدهم وبالصلاة لحماية مصر منهم ومن مخاطرهم. رغم كل هذا لم تهتم الدولة بمساءلة الشيخ ولم تقم الدولة بإغلاق المسجد الذي يبث إمامه سموماً داخل المجتمع المصري ويحض المسلمين على كراهية المسيحيين. لم تعد قضية التطرف مسألة تهتم بها الدولة في مصر. القضية التي توليها الدولة الاهتمام الاكبر هي إذلال المسيحيين.

لست أقبل بالعنف أياً كان مصدره، ولست أتفق مع المظاهرات العنيفة حتى ولو كانت للدفاع عن الحقوق المسلوبة، ولكن يبدو أن المسيحيين في مصر بلغوا مرحلة الانفجار بعد كبت وقمع طويلين. لست أتوقع أن يقوم النظام المصري بمعالجة القضية بشكل سليم، ولكنه سيقوم كعادته بمعالجة الظواهر التي تنال منه وتسيء إلى صورته. ومن المؤكد أن المسيحيين سيدفعون ثمناً باهظاً لتحديهم غير المسبوق للأجهزة المسئولة. سيقوم النظام بمعالجة نتائج القضية من دون أن يعالج القضية الأساسية التي هي حرية بناء الكنائس. سيقوم النظام المصري بإحالة المئات من المسيحيين الذين تم إلقاء القبض عليهم إلى القضاء الذي لن يرأف بحالهم ولن يضع في الحسبان قضيتهم العادلة.

يعلم المسؤولون تماماً أن المسيحيين منتمون ومخلصون وأوفياء لمصر، ويدرك المسئولون تماماً أن المسيحيين لا يتطرفون ولا يكرهون ولا يبثون سموماً كغيرهم، ولكن كل الحب والولاء للوطن لا يشفع للمسيحيين ولا يغيّر من القلوب الحجرية للمسئولين المصريين. القضية جد خطيرة لأن أوضاع المسيحيين في مصر لم تعد أمراً مقبولاً والتمييز الذي تمارسه الدولة ضدهم لا يجب أبداً الصمت إزاءه. ولكن لتعلم الدولة في مصر انها إذا كانت الدولة ترفض بناء دور العبادة للمسيحيين وإذا كانت تقدر على منع بناء الكانئس، فإنها لن تقدر أبداً على منع بناء الكنائس الحقيقية التي هي جماعات المؤمنين. فليعمل المسيحيون المصريون على بناء الكنائس الروحية التي لا تحتاج ترخيصاً رئاسياً ولا تصريحاً أمنياً.