لعقود طويلة يثور الجدل ويتجدد مرارا كلما أعد عمل فني يروي قصص الأنبياء، وإصطدمت وتصطدم محاولات العديد من الكتاب والمخرجين بهذا الصدد بمواقف رافضة للمراجع الدينية والتي هي بالأساس غير متفقة حول مبدأ الرفض المطلق لتجسيد الأنبياء والصحابة في الأعمال الفنية. فالمراجع الشيعية تجيز تجسيد الأنبياء وإن كانت ترفض بالمطلق أيضا تجسيد الأئمة وهم بحسب الترتيب أقل مرتبة من الأنبياء.

وفيما يتعلق بمسألة تجسيد للأنبياء أو الصحابة أو الأئمة ليس هناك نص شرعي يحرم ظهورهم في الأعمال الدرامية، وما صدر ويصدر لحد الان لا تتجاوز سوى إجتهادات من مؤسسات دينية أو إجتهادات شخصية لا أساس لها في الدين، بل لا يمكن حتى عقد المقارنة بينها وبين نصوص أخرى متشابهة في هذا المجال.

وإذا إستثنينا سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم لمهابته ومكانته المقدسة الكبيرة، فليس هناك أي مبرر موضوعي لعدم تجسيد غيره من الأنبياء والصحابة والأئمة، وذلك إستنادا الى عدم وجود نص شرعي يحرم ذلك، والقاعدة في الإسلام هي quot; لا تحريم من دون نصquot;.

والرفض أساسا يأتي دائما من خلال كون الأنبياء معصومين عن الخطأ، والشيعة يعتبرون أئمتهم معصومون أيضا من الخطأ، ومعظم الأعمال التي تتطرق الى حياة الأنبياء أو الصحابة أو الأئمة لا تتطرق بطبيعة الحال الى الأخطاء التي إرتكبها هؤلاء، وهي أخطاء موجودة بحسب النصوص الدينية والروايات التاريخية، وإنما تحاول تلك الأعمال الفنية رصد الجوانب الإيجابية والمشرقة لهذه الشخصيات التاريخية الكبرى ودورها في تدعيم أساس الدين وعرضها على المسلمين بهدف التوعية والإرشاد والإقتداء وهذه بمجملها نوايا حسنة لكثير من المخرجين والكتاب، فمن الممكن في حال عرض أي فلم أو مسلسل أو أي عمل فني على لجان الرقابة أو المؤسسات الدينية أن تعترض على أي نص يسيء الى الأنبياء والصحابة، أو حتى أن تعترض على عرضه، ولكن أن ترفض تلك المؤسسات والمراجع كل عمل لا لشيء إلا لسبب عصمة الأنبياء والأئمة فهذا محل نظر ومناقشة سأحاول أن أخوضها بهدوء ما تيسر لي ذلك.

قبل الخوض في الحديث عن الأعمال العربية بهذا المجال أود أن أشير الى أن السينما الأجنبية عموما سبق وأن قدمت العديد من الأعمال السينمائية الكبيرة عن الأنبياء، بل وأشبعت حياتهم بكل ما فيها من البحث والعرض وحتى النقد في بعض الأحيان. فقد شاهدنا أفلاما عن سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، وظهر العديد من الأفلام عن حياة ومسيرة سيدنا المسيح ولم يعترض أحد على ذلك، بل أن مثل هذه الأفلام كانت تتسرب الى أسواق دولنا الإسلامية بدليل أنني شاهدت وتابعت جميع هذه الأفلام، في الوقت الذي لم أكن أنا من أستوردها من أمريكا أو غيرها من البلدان.

وهناك من يرى بأن ظهور الأنبياء على الشاشة يسيء لهم ولمكانتهم في قلوب المسلمين، مع أنني أرى بأن أي عمل يروي قصص الأنبياء أو يرصد تاريخ حياتهم وسعيهم لإيصال رسالة الله الى العالم لا يسيء الى مكانتهم بقدر ما يعزز مكانتهم السامية في قلوب المسلمين، فإذا أخذنا واقع التخلف الثقافي وشيوع الأمية وبهذه النسبة الكبيرة داخل المجتمعات العربية وعموما داخل المجتمعات الإسلامية، ينبغي أن نلتفت الى هذا الدور المهم الذي يلعبه العمل الفني والإعلام عموما في تثقيف الجماهير المسلمة، أفلا ينبغي أن نقدر الدور الكبير الذي لعبه مسلسل quot; يوسف الصديقquot; في ردع الكثير من شبابنا المسلم عن إرتكاب معصية الزنا وإرشاده الى الى الطريق القويم بالصبر والتمسك بتعاليم الله؟!. هذه القصص تلعب دورا كبيرا في ردع الشباب المسلم عن الأخطاء من خلال الإقتداء بسيرة الأنبياء والصحابة في حياتهم اليومية، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أن التلفزيون عموما يدخل بيوت كل المسلمين، وعليه فإن لهذا الجهاز دور كبير ومؤثر في توعية المسلم وإرشاده الى الوجهة الصحيحة.
إذا إقتصر الأمر على مجرد تجسيد الأنبياء في الأعمال الفنية وهذا ما أؤيده بشدة، ولا أجد حرجا أو ما يمن أيضا، وهم في الأساس غير معصومين وهم بشر مثلنا لا يختلفون عن أي مسلم آخر سوى بسابقتهم للإسلام وأعمالهم الرشيدة وقتالهم في سبيل الله، وبذلك فإن مسألة المنع بحجة العصمة تنتفي فيهم، فلماذا ترفض المراجع الدينية تجسيدهم أيضا في الأعمال الفنية، في حين أن فيهم من يمثل ركنا أساسيا من أركان الدعوة الإسلامية، ومن الجدير أن يروى دورهم في نشر الإسلام وتوثيق مراحل حياتهم ونضالهم من أجل الإسلام.
والغريب في الأمر حقا هو أنه في الوقت الذي ترفض اليوم المراجع الدينية تجسيد هؤلاء الصحابة خصوصا العشرة المبشرين بالجنة، أن هذا المراجع سبق وأن وافقت على تجسيد بعضهم في الأعمال الفنية. ففلم quot; الرسالةquot; الذي يروي تاريخ نشوء الإسلام جسد فيه الصحابي الجليل أبا عبيدة الجراح، وفلم quot; القادسيةquot; جسد الصحابي الكبير سعد بن أبي وقاص، وهو ومعه الجراح هما من العشرة المبشرين بالجنة!!. فبأي معيار يرفض الأزهر اليوم ما أجازه بالأمس، وما الفرق بين سعد وأبا عبيدة وبين أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وهم أيضا من العشرة المبشرين بالجنة وليسوا معصومين كالأنبياء؟.

هناك مشروع يعد له حاليا لإنتاج مسلسل كبير عن سيدنا عمر رضي الله عنه، ويصطدم هذا العمل كغيره بصخرة الرفض من لدن الأزهر الشريف، والسؤال الذي يفرض نفسه أليس القبول بتجسيد دور سعد يمنح الحق بالتالي لمخرج آخر بتجسيد دور عمر؟.
أما القول بأن المنع يأتي بسبب الخوف من قيام الممثل بعد تجسيده لدور أحد الأنبياء أو الصحابة بالمشاركة في عمل آخر قد يسيء الى مكانته كممثل جسد دورا لصحابي، فهذا القول مردود على صاحبه الذي أعتقده أن يكون متخلفا وقصير النظر بقوله هذا، لأن الممثل عزت العلايلي الذي سبق وأن جسد دور الصحابي الكبير في فلم القادسية قد شارك بمئات الأعمال التفلزيونية والسينمائية الأخرى التي قد يكون بدوره في تلك الاعمال ما لا يليق لتمثيله دور سعد بن أبي وقاص بل ولمجمل تاريخه الفني.
وهناك ملاحظة أود أن أتوقف عندها، وهي أنه في النسخة الأجنبية من فلم quot; الرسالةquot; جسد دور أبا عبيدة ممثل أمريكي، كما قام الممثل أنتوني كوين بدور سيدنا حمزة ولم يقل في شأنهما أي قول، وربما يكون هذان الممثلان قد شاركا لاحقا في العديد من الأفلام الأمريكية الأخرى التي قد يكون من بينها ما يسيء الى الإسلام بالمفهوم الدارج.
ثم كيف يتناسى من يطلقون مثل هذه التعبابير الغريبة أن الممثل إنما يجسد دورا، وسوف لن يلبس جلد الصحابي، أو على الأقل هو لم ولن يتحول الى صحابي حتى يؤاخذ على ما يفعله فيما بعد تجسيده الدور. فالأساس هو أنه ممثل، أي إنه يمثل دورا وبالتالي فهو لن يتحول الى صحابي أو الى رجل مقدس تحرم عليه أشياء أو يكون معصوما عن الخطأ، هذا أمر لا يمكن تحقيقه لأننا لسنا قادرون على إحياء سعد أو أبا عبيدة لنزجهم في عمل تلفزيوني.
في قصص الأنبياء والسير روي الكثير عن أحداث وسير شخصيات كبيرة في الإسلام، وهناك كتب كثيرة تحدثت عن الأنبياء والقادة المسلمين وقرأها الملايين منا،فلماذا يصح الحديث عن سير وتاريخ هؤلاء ولا يسمح بعمل فني يروي تلك القصص، في الوقت الذي زحزح التلفزيون الكتاب من مكانته، وأصبح اليوم هو الوسيلة الوحيدة للإرشاد والتثقيف والتذكير بدور عظماء الإسلام وقادته؟.