أدان عدد كبير من السياسيين والكتاب والمفكرين المذبحة التي ارتكبها إسلاميون ينتهجون الفكر الإرهابي لتنظيم القاعدة ضد مسيحيي العراق والتي أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ فضلاً عن انتشار حالة من القلق بين مسيحيي الشرق الاوسط الذين تلقوا تهديدات واضحة من منفذي العلمية. ولكن الإدانات هذه كانت في معظمها قاصرة ومنقوصة لأنها ركزت على اعتبار المذبحة مجرد حلقة من حلقات الإرهاب التي يعاني منها الشعب العراقي من دون تمييز منذ استباح الإسلاميون الجسد العراقي وشوهوا وجهه الحضاري بعملياتهم الإرهابية الدنيئة.
نعم يأتي جزء من معاناة المسيحيين العراقيين اليوم في إطار الحالة العامة المؤسفة التي يعيشها العراق باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من مكونات النسيج العراقي. ويضاف إلى هذه المعاناة معاناتهم الخاصة التي تتعلق بكونهم مستهدفين بصفتهم الدينية. معاناة المسيحيين العراقيين هنا مزدوجة ولا يشعر بها وبآلامها إلا من تكتوي يده بنارها. وقد كشفت التهديدات التي أطلقها إرهابيو تنظيم quot;دولة العراق الإسلاميةquot; الموالي لتنظيم القاعدة ضد مسيحيي العراق والشرق الأوسط عن النوايا الحقيقية للتنظيمات والتي تتلخص في ألا يكون للمسيحيين موطيء قدم في العراق.
كانت التهديدات التي أطلقها إرهابيو التنظيم الذي نفذ مجزرة كنيسة سيدة النجاة غير مسبوقة، إذ لم يسبق أن أعلنت تنظيمات إرهابية من التي تعمل بالعراق عن عدائها لأتباع ديانة كما حدث في بيان الحادي والثلاثين من أكتوبر الماضي. كما لم يحدث من قبل أن اتخذت التنظيمات الإرهابية أتباع ديانة معينة بالكامل أهدافاً شرعية لها. ولعل التهديد الموجه للمسيحيين يؤكد أمر استهدافهم لهويتهم ويدحض محاولة البعض إنكار الأمر.
لا يعني الإقرار باستهداف المسيحيين أنهم الوحيدون الذين يعانون في العراق، إذ من المؤكد أن كل طوائف الشعب العراقي تتعرض هي الأخرى لهجمات إرهابية وحشية بصفة شبه يومية. ولا ينكر أحد أيضاً أن الطائفة الشيعية بالذات تتعرض لهجمات وحشية تستهدفهم. ولكن لا ينبغي أن نغفل أن استهداف الشيعة يأتي في إطار الصراع العقائدي والسياسي بين الطائفتين الأكبر على الساحة العراقية وأن الصراع الشيعي السني في العراق له أبعاد إقليمية مرتبطة بالعلاقة المتوترة بين قوى إقليمية سنية وأخرى شيعية.
يؤرق الحديث عن استهداف الإرهابيين الإسلاميين للمسيحيين العراقيين الكثيرين من المسلمين. وإذا كنا جميعاً نعرف أسباب إنكار المتطرفين التام لقضية استهداف المسيحيين، فإنه من غير المفهوم على الإطلاق أسباب امتعاض الكثيرين ممن نعتقد بأنهم مسلمين معتدلين من طرح القضية ورفضهم الاعتراف بخصوصية الحالة المسيحية في المشهد العراقي الراهن ولجوئهم لتمييع القضية. هناك أسباب كثيرة لرفض الكثيرين من المسلمين الاعتراف بوجود استهداف للمسيحيين سأذكر منها هنا الأسباب الثلاثة التالية:
السبب الأول هو الغيرة على الإسلام. هناك الكثيرون من الغيروين على الإسلام الذين يرفضون مجرد اتهام مسلمين بارتكاب عمليات إرهابية. من السهل تفهم الغيرة على الدين، ولكن حين تمنع الغيرة على الدين الإنسان من الاعتراف بالحقائق فالغيرة على الدين هنا تتحول إلى موقف سلبي لا يختلف كثيراً عن تأييد والتعاطف مع الإرهابيين.
السبب الثاني هو المعاناة من الإرهاب. يرى الكثيرون أن المسلمين يعانون كثيراً من الإرهاب وأثاره المدمرة كغيرهم من الطوائف الأخرى، ويعتقدون بأن الكل في المعاناة سواء، ولا يرون فرقاً بين ضحية وأخر على أساس ديني. الأمر هنا يعتبر تسطيحاً للأمور لأنه لا يمكن المساواة بين ضحية قتلت في عملية عشوائية في احد شوارع بغداد أو ضحية قتلت في صراع طائفي أو سياسي وبين ضحية قتلت في هجوم مدبر على كنيسة.
السبب الثالث هو اعتقاد الكثيرين بنظرية المؤامرة. يؤمن هذا الفريق بأن المسيحيين غير مقصودين لهويتهم الدينية ولكنهم مقصودون لهويتهم الوطنية العراقية. يعتقد هذا الفريق أيضاً بأن العراق هو المستهدف من العمليات الإرهابية ضد المسيحيين والشيعة والصابئة وغيرهم بغرض تمزيقه وتحويله إلى دويلات صغيرة لا حول لها ولا قوة. ويظن مؤيدو نظرية المؤامرة أن أصابع صهيونية أو أمريكية تقف وراء العمليات الإرهابية لكنها تلصقها بمسلمين. مما لا شك فيه أن هناك من لا يريد الخير للعراق وأن هناك من لا يريد أن تقوم للعراق قائمة، ولكن إلصاق تهمة الإرهاب بقوى أخرى غير المتطرفين الإسلاميين ليس إلا تخريفات مرضى بعقدة المؤامرة.
لا يمكن فصل محاولة نفي استهداف المسيحيين عن محاولة الكثيرين من المسلمين وبخاصة رجال الدين التأكيد على أن منفذي العمليات الإرهابية لا ينتمون للإسلام ولا يدينون به، فلا فارق، على سبيل المثال، بين محاولة إنكار استهداف مسيحيي العراق ومحاولة نفي أن يكون منفذو هجمات 11/9 مسلمين. كلا المحاولتين تستهدفان فقط الدفاع عن الإسلام ونفي تهمة تأييده للإرهاب. لست أعتقد بوجود من يعترض على سعي المسلمين تبرئة دينهم من الإرهاب، لأن دفاع المرء عن دينه أمر طبيعي، ولكن السعي لتبرئة الإسلام لا يجب أن يكون بإنكار استهداف الإرهابيين الإسلاميين للمسيحيين في العراق وغيرها من البلدان. كان أجدر بالمسلمين وعلمائهم الدفاع عن الإسلام شرح النصوص التي يستخدمها الإرهابيون لتبرير عملياتهم عبر وضعها في أطر تاريخية تحد من قدرة الإرهابيين على استخدامها لتبرير جرائمهم.
إن استهداف المسيحيين العراقيين لهو أمر حقيقي وملموس لا يوجد داع لإنكاره. يسهل الحديث عن عدم وجود استهداف للمسيحيين العراقيين، ولكن الصعب هو الاعتراف بالحقيقة التي تؤكد على أن معاناة مسيحيي العراق مزدوجة. كان يمكن الاتفاق مع رؤية من يعترضون على مسألة استهداف المسيحيين لو أن المسيحيين قتلوا في عمليات عشوائية وليس داخل كنائسهم ومنازلهم ومحال أعمالهم. وكان يمكن الاتفاق أيضاً مع من ينكرون المعاناة المزدوجة للمسيحيين لو أن الإرهابيين لم يكنّوا العداوة المعروفة عنهم للمسيحية وللمسيحيين، ولو لم يستخدم الإرهابيون نصوصاً دينية تؤكد على استهدافهم للمسيحيين مثل النصوص التي تدّعي بشرك وكفر المسيحيين وتبيح سفك دمائهم. كما كان يمكن القبول بالقول بعدم وجود استهداف للمسيحيين لصفتهم الدينية لو كانوا طرفاً في الصراع الطائفي الذي تدور رحاه بين السنة والشيعة ولو أنهم أيدوا طرفاً ضد أخر. ولكن المسيحيين لم يفعلوا وتمسكوا بحيادهم وبقوا مسالمين.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات