لقد ذكرت في مقال سابق (الحلال والحرام بين الدين والأخلاق) كيف يمكنلما هوديني أن ينفصل عن ما هو أخلاقي ويكون له عالما ً خاصا ً من المثل بعيدا ً عن الواقع بينما كل ماهو أخلاقي يمكن أن يكون قاعدة لماهو ديني وذلك لمرونته وتأقلمه مع الواقع كنتاج للعقل والتجربة وخبرة الإنسان عبر العصور.

إن جدلية الدين والأخلاق تعبر عن نفسها في الثقافة السائدة لكل زمان ومكان. فتارة ً يطغى التصور الديني على التصور الأخلاقي وتارة ً أخرى يطغى التصور الأخلاقي مع إنحسار التصور الديني لأسباب مختلفة. فتارة ً يتفقان وأخرى يختلفان حد الصدام ليخلقان مجتمع إزدواجي يعيش عالمين منفصلين في زمان ومكان واحد، وهذا ما يحدث في مجتمعاتنا العربية. هذا لايعني أن الدين والأخلاق منفصلان لكن تفكيكهما على المستوى التحليلي، فلكل منهما مصدره وتعليلاته لأفعال وسلوك الإنسان.

إن التصور الديني (وأقصد بالتصور الديني أي ماهو متعلق في المعاملات والسلوكيات كنتاج للفكر الديني وتفسيرات النصوص أيضا ًفما يخص السلوكيات، وليس ماهو عقائدي) يعتمد إعتمادا ً كليا ً على الغيب كمصدر رئيسي في إنتاج الأخلاق ويغلف هذا الإنتاج بالمقدس فيصعب الوصول إليه لحساسيته. لكنه يبقى محصورا ً بالتجربة الذاتية للإنسان بعيدا ً التجربة الموضوعية التي ينتجها البشرمن خلال التجربة والخبرة. ينطلق كل ماهو ديني من فكرة المطلق والأوحد والثبات ويبدأ من الغيب كالوحي أو الروح، بالخصوص في الديانات الروحانية، وينتهي إيضا ً بالغيب كالحياة الآخرة ويوم الحساب. في أحيان كثيرة لايقبل الديني التعدد ويسقط في فخ الدوغما فيتحول إلى أيدلوجية تحكم المجتمع بما ينبغي أن يكون حسب رؤية الدين وليس بما هو كائن. وعندما ينزل الديني متسلحا ً بالغيب والقدسية يصتدم بالنسبية في الواقع الاجتماعي لأختلاف الاذواق والتجارب والعقول، ويصتدم بالنسبية في تعدد الثقافات والعادات والتقاليد.

أما التصور الأخلاقي فهو نسبي غير مطلق معرض للتغيير ويقبل التعدد بحكم العقل والتجربة، إضافة لكل ذلك فإن الأخلاقي لايرتبط بالمقدس لذلك يمكن مناقشته وتغييره بحكم الخبرة في الحياة. يبدأ الأخلاقي بالعقل والتجربة ويحسب حساب العاقبة المباشرة للفعل إو الحافز المؤدي لذلك الفعل، فهو خاضع للتغير بحكم الزمان والمكان. إن كل ماهو أخلاقي يرتبط في ثقافة المجتمع أو الثقافات المتعددة للمجتمع ويحسب حسابها فيُكون منظومة من القيم داخل تلك الثقافات ويعيد إنتاجها بعد التعديل مع كل جيل جديد.

لقد كانت أخلاق اليونان مرتبطة بأساطيرهم وحكايات هوميروس، لكن هذا لم يمنع فلاسفتهم من إنتاج قيم أخلاقية قائمة على أساس عقلي. فبينما عبر افلاطون في فلسفته المثالية عن الفضيلة والكمال، عبر عنها أرسطو بفعل الخيروالبحث عن السعادة من خلال الطريق الوسطي، فالشجاعة هي طريق وسط بين الجبن والتهور. فموضوع الأخلاق عند فلاسفة اليونان يدور حول حب الخير والعدل والجمال. أما اليهودية والمسيحية كديانات توحيدية ترتبط بالوحي فقد عبرت عن الأخلاق من خلال وصايا الإله في العهدين الجديد والقديم. أما في الإسلام، فقد قال النبي محمد ما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق.

لقد أنتج فلاسفة المسلمين فكرا ً وفلسفة للأخلاق خاصة بهم تجمع مبادئ الدين مع الفلسفة العقلية اليونانية التي جائت بعد بعد ترجمة كتب فلاسفة اليونان. وبهذا أصبح هناك موضوع يسمى فلسفة الأخلاق في الفكر الإسلامي، ليفتح الباب لجدل ونقاش واسعين عن القيم والمبادئ الأخلاقية.

لقد أنتقل هذا الجدل إلى المسيحية في القرون الوسطى بعد نقل وترجمة التراث الفكري الإسلامي إلى الاتينية. إلا أن النقطة المفصلية في تاريخ أوربا جائت بعد عصر النهضة حين أنفصل علم فلسفة الأخلاق عن الفكر الديني المسيحي مستقلا ً بذاته. فقد كان ذلك بعد ظهور الفلسفة العقلانية والتجريبية. فلابد للأخلاق أن تقوم على أساس عقلي عند بعض الفلاسفة وعلى أساس تجريبي عند البعض الآخر، ولايعبر هذا الموقف الجديد عن موقف ضد الدين بل دافع الكثير من الفلاسفة عن أثبات وجود الإله.

لقد فتح ديكارت الفيلسوف الفرنسي الباب أمام الوجود الذاتي للأنسان من خلال مفهوم العقل. فجاء بعده ليبنيز الذي يعتقد أن البحث عن الكمال لابد أن يعتمد على العقل بدل التشبث بالنص الديني المقدس، فطريق العقل يؤدي بالضرورة لسعادة الإنسان. وفي المقابل ركزت الفلسفة التجريبة بداية من هوبيز وجون لوك الذي يعتقد أن الأخلاق يجب أن تعتمد على حاجة الإنسان وطريقة عيشه بسلام مع الآخرين، لكنه رفض فكرة هوبييز بأن القانون الطبيعي للبشرية هو حرب الكل ضد الكل وأن الإنسان ليس كائن ميكانيكي يسير بإيعاز من رغباته وطموحاته التي تعبر عن نفسها بذلك القانون الطبيعي. لوك يعتقد أن مايجب علينا أن نسلكه ونفعله يأتي عن طريق التجربة التي تمر من خلال الحواس. كذلك ديفيد هيوم الذي رفض مفهوم العقل كمصدر للأخلاق وأستبدله بالتجربة من خلال الفعل والعاطفة التان تعبران عن نفسيها من خلال الدافع للفعل والسلوك فتسمى أخلاق. لكن الشيء البارز هنا هو الفيلسوف الالماني عمانؤيل كانت الذي حاول أن يبني نظرية فلسفية أخلاقية قائمة على العقل والإيمان. فقانونه الأخلاقي يرتكز على الإيمان بالإله، والحرية والخلود. فكما أن هناك قانون فيزيائي طبيعي يوجد هناك قانون أخلاقي ويجب أن نتصرف على أساسه. فهذا القانون الأخلاقي يتفق بشكل كبير مع سعي الإنسان في البحث عن السعادة.

إذا ً، ما أريد أن اصل أليه هو أن التصور الأخلاقي أشمل وأوسع من التصور الديني ويمكن أن يكون قاعدة له، أي قاعدة للتشريعات العملية لسلوك الإنسان وإنتاج حلال وحرام معاصر وإنتاج الكثير من القيم التي يرجع الإنسان بعقله وتجربته في تحديد صحتها من بطلانها لا أن تملى عليه من المؤسسة الدينية بإعتباره موضوع للتطبيق، إن هذه القاعدة تتفق مع المستجدات التي يتوقف عندها التفسير السلفي للدين. من هذه الحاجات مفاهيم جديدة كالحرية وحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة وغيرها الكثير الكثير. إن كل ماهو ديني يمكن أن يربك الحياة لوحده بمرجعيتيه الغيبة إن فصل عن قاعدته الأخلاقية فيخلق حالة من الإزدواجية في شخصية الفرد والمجتمع. فالدين يمكن أن يبعث الروح في السلوكيات الأخلاقية ويعطيها قيمتها الحقيقية وليس كمصدروحيد للسلوك الإنساني بعيدا ً عن الخبرة والتجربة والعقل من خلال التشريعات التي تصتدم بالواقع فتجعل الإنسان والمجتمع ينفر من الدين باعتباره عائق لايمكن تجاوزه.

http://www.elaphblog.com/imadrasan