من المؤكد أن محنة مسيحيي المشرق لم تبدأ مع quot;تنظيم القاعدةquot; الذي تأسس على يد (اسامة بن لادن) في أفغانستان، بدعم وتمويل أمريكي وغربي واسلامي، لمقاومة quot;الاحتلال السوفيتيquot; في ثمانينات القرن الماضي.فاذا عدنا الى التاريخ وبداية انحسار quot;المسيحية المشرقيةquot; نجد بأن مأساة مسيحيي الشرق تعود بجذورها الى نشوء quot;الدولة الاسلاميةquot; وتبنيها لمبدأquot;اللامساواة الدينيةquot; بين الأديان.هذه quot; القاعدة الاسلاميةquot;، التي جاء بها الاسلام وتقوم على تفضيل الاسلام على جميع الأديان الأخرى، مازالت تشكل الاطار القانوني والسياسي والاجتماع والثقافي لاضطهاد المسيحيين وغير المسلمين عموماً والانتقاص من حقوقهم ومكانتهم في المجتمعات الاسلامية.لكن مع تنظيم القاعدة واعلانه quot;بأن جميع مسيحيي الشرق باتوا هدفاً مستباحاً لمجاهديهquot; يبدو أن محنة مسيحي المشرق قد تخطت مرحلة quot;الاضطهاد الدينيquot; لتخل مرحلة quot; التطهير الديني والعرقي والابادة الجماعيةquot; وما يحصل لمسيحيي العراق منذ سنوات خير مثال.


رغم تبني ما يسمى بـ quot;تنظيم دولة العراق الإسلاميةquot;،المنضوي تحت لواء quot;تنظيم القاعدةquot;، أكثر التنظيمات الاسلامية أصولية وتشدداً وارهاباً، في بيان رسمي له بدأه بالآية القرآنية 217 من سورة البقرة {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} للهجوم الارهابي الوحشي على quot;كنيسة سيدة النجاةquot; يوم الأحد (31-11-2010) وما تلاه من قصف صاروخي ومدفعي للأحياء المسيحية وسط بغداد واعلانه بان الاقباط المصريين وجميع المسيحيين في المنطقة باتوا هدفاً مستباحاً لمجاهديه،تصر الكثير من المنابر الاعلامية العربية والاسلامية، وكذلك عدد غير قليل من النخب والساسة المسلمين من العرب وغير العرب،تصر على الصاق هذه الأعمال الارهابية وغيرها التي تستهدف المسيحيين أو المسلمين باطراف خارجية ووضعها في اطار التآمر الغربي على العرب وتشويه صورة الاسلام ولاحداث فتنة داخلية هنا او هناك.تماماً مثلما يذهب بعض السذج ومحترفي التضليل الى اعتبار تفجيرات 11 ايلول 2001،التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف أمريكي، عمل مدبر من الاستخبارات الأمريكية،رغم تبني quot;تنظيم القاعدةquot; وعلى لسان زعيمه (بن لادن) لهذا العمل الارهابي الفظيع وتسميته له بـquot;الارهاب المحمودquot; وبغزوة quot;منهاتنquot;.


يبدو جلياً،أن ما تريده هذه المنابر والنخب هو تضليل الراي العام والالتفاف على الأسباب الحقيقة لمحنة مسيحيي العراق والمشرق وتمييع قضيتهم،التي هي نتاج quot;فعل اسلاميquot; تراكمي وتاريخي رسمي(حكومي) وشعبي(مجتمعي) بامتياز،من جهة أولى. ولتبرئة quot;الاسلام السياسيquot; وخطابه المرتكز الى النصوص الدينية، الذي يشكل الحاضنة الفكرية والعقائدية للتنظيمات الاسلامية المتشددة، من الجرائم المرتكبة ضد مسيحيي العراق.من يعلل قتل المسيحيين ويتحاجج بتفجير الكنائس في العراق بوجود الاحتلال، لينظر الى العنف المنظم ضد الأقباط المسيحيين داخل مصر في ظل سلطة وطنية قوية واستبدادية.ألم يكن quot;الحقد الدينيquot; هو العامل المشترك للهجوم الارهابي على quot;الكنيسة القبطيةquot; وقتل مصلين ليلة عيد الميلاد في مدينة (نجع حمادي) بمصر ومذبحة quot;كنيسة سيدة النجاةquot; وغيرها من الاعمال الارهابية على الكنائس العراقية؟.كيف يمكن الحديث عن فتنة مسيحية اسلامية في العراق والمسيحيون في هذا البلد لا ينافسوا أحداً على السلطة وليس لديهم ميليشيات مسلحة يحاربون بها؟.الى تاريخيه لم يطلق مسيحيياً رصاصة واحدة على مسلم رغم كل هذا الدم المسيحي المسفوك بأيدي الاسلاميين من غير سبب أو مبرر!.


الحالة العراقية والى حد ما المصرية تؤكدان على أن الأقليات المسيحية، والغير اسلامية عموماً،وقعة ضحية التحالف المقدس الغير معلن بين quot;الاستبداد السياسيquot; ممثلاً بالأنظمة والحكومات وquot;الاستبداد الدينيquot; ممثلاً بالمرجعيات والمؤسسات الدينية والأصوليات الاسلامية عموماً التي تحتضن وترعى بشكل أو آخر التنظيمات الاسلامية المتشددة. فهم (المسيحيون) الفائض البشري الذي يضحي به الحكام بمجرد تعرضهم لخطر أو تهديد داخلي والمساومة عليه لتجنب المواجهة مع التيارات الاسلامية المتشددة ولابعاد هذه التيارات عن مسألة الحكم والسلطة.كتب أحدهم:quot; أليس أمراً يدعو للتساؤل، أن تعقد عشرات الندوات وحلقات دراسية في الدول العربية والاسلامية، لمواجهة الهجمة الأميركية على العروبة والاسلام، ولا تعقد ندوة واحدة لمواجهة هجمات المسلمين على المسيحيينquot;.أن ما يحصل لمسيحيي العراق والمشرق هو بالمحصلة نتاج النهج الطائفي الذي تنتهجه الحكومات العربية والاسلامية وسياسات التمييز الديني والاثني والتهميش السياسي والثقافي للمسيحيين وابعادهم عن المشاركة في ادارة أوطانهم وتمسك هذه الحكومات بدساتير وقوانين طائفية تعزز ثقافة كره الآخر غير المسلم،فضلاً عن أنها توفر بيئة ثقافية وتشريعية مناسبة وخصبة لانتشار كل أشكال التعصب والتطرف في المجتمع.من هذا المنظور، أرى أن ثمة مصلحة، سياسية وغير سياسية، للحكام الطغاة في استمرار الأعمال الارهابية التي تقوم بها المجموعات الاسلامية ضد المدنيين،شريطة أن تبقى هذه التنظيمات وتحركاتها تحت السيطرة.فالأعمال الارهابية ضد الناس الآمنين في أي مجتمع غالباً ما تزيد من الرصيد الشعبي والجماهيري للأنظمة القائمة بصرف النظر عن طبيعتها ومساوئها،وبشكل أكثر لدى الفئات المستضعفة مثل الأقليات الدينية والأثنية،وتدفعها للالتفاف حول الحكم القائم،حيث تجد فيه ملاذها الآمن.


رغم كل المناشدات والمطالبات، المحلية والأقليمية والدولية، بضرورة حماية quot;مسيحيي العراقquot; من العنف الذي يستهدفهم،يبدو، وبكل أسف، أن quot;تصفية وجودهمquot; من أرض الرافدين موطن أجدادهم ومهد حضارتهم، أصبحت مجرد مسألة وقت لا أكثر،لطالما يستمر مسلسل العنف ضدهم من غير أن تتحرك على الأرض أية جهة محلية أو اقليمية أو دولية لحمايتهم.


اذا كانت المذابح الجماعية بحق الآشوريين العزل في سيميل وقرى سهل نينوى عام 1933،التي نفذها الجيش العراقي وسحقه للانتفاضة الآشورية ذات المطالب المشروعة،قد أخرجت الآشوريين والمسيحيين من المعادلة السياسية العراقية،فمن المؤكد أن استمرار مسلسل العنف ضد المسيحيين لسنوات أخرى سيخرجهم وبشكل نهائي من الخريطة الديمغرافية للعراق الجديد.هذا ما تريده وتخطط له أكثر من جهة عراقية واقليمية ودولية.فالحقيقة،المدعومة بكثير من المعطيات والوقائع،هي ما من جهة (عراقية أو اقليمية أو دولية) معنية بشكل جدي وحقيقي بمصير ومستقبل الوجود المسيحيي داخل العراق.اذ من غير المعقول أن تعجز القوات والأجهزة الأمنية العراقية المعززة بجيش الاحتلال الامريكي أو الحكومات العربية والاسلامية أو المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة ومجلس الأمن، عن توفير الحماية المطلوبة لمسيحيي العراق اذا ما ارادت ورغبت احدى هذه الجهات أو الدول بحمايتهم.لقد شاهدنا كيف تحركت أمريكا ومعها حلفائها الغربيين عام 1991 لحماية أكراد الشمال من عدوان وهجمات جيش صدام حسين ووفرت لهم quot;ملاذ آمنquot; وهم اليوم يتمعون بحكم ذاتي ذو سلطة وحقوق وصلاحيات هي أقرب الى quot;مفهوم حقوق وسيادة الدولةquot;.وكانت تركيا قد أعلنت مراراً بأنها معنية ليس بأمن وسلامة التركمان فحسب، وانما أيضاً بحقوقهم القومية والسياسية داخل العراق،الى درجة أنها هددت بالتخدل العسكري اذا ما ضم الأكراد مدينية quot;كركوكquot; التركمانية المتنازع عليها الى اقليمهم الكردي.ولا يخفى على كل مهتم ومتتبع للشأن العراقي، سعي ايران الحثيث لضمان تفوق الشيعة،عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، في المعادلة العراقية.وسعي السعودية وغيرها من الدول العربية السنية لتعزيز دور ومكانة سنة العراق بعد فقدانهم للسلطة بسقوط قائدهم صدام حسين.لكن مسيحيي العراق المستضعفين،لأنهم مسيحيون وربما لأنهم الورقة الأضعف في اللعبة السياسية العراقية، تركوا وحدهم مكشوفين ومن غير أية حصانة أو حماية وطنية أو اقليمية أو دولية، في مواجهة العنف المنفلت للقوى الاسلامية والتنظيمات الارهابية،المحلية والمستوردة والعابرة للحدود،مثل القاعدة وتنظيم دولة العراق الاسلامية.أليس أمراً يدعو للتساؤل والأسف،أن يكتفي quot;مجلس الأمن الدوليquot;،بعد جلسة خاصة عقدها يوم الثلاثاء الماضي 9-11- 2010 لمناقشة وضع مسيحيي العراق،بوصف الاعتداءات على المسيحيين بـ quot;مروعةquot;.وأن يقول السفير الفرنسي لدى الامم المتحدة: quot;ان quot;مسيحي العراق في الخطوط الامامية للديمقراطية في هذا البلد.quot;.وأن يكتفي مجلس الامن القومي الامريكي بادانة الهجمات الارهابية ضد المسيحيين ودور عبادتهم في بغداد؟؟؟.فهل ببيانات الادانة والاستنكار يمكن معالجة محنة شعب مستضعف عاجز عن الدفاع عن نفسه يتعرض لعملية quot;ابادة جماعيةquot; وتطهير عرقي وديني من مناطقه التاريخية في بلاد الرافدين؟؟؟.لقد أقامت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الدنيا ولم تقعدها بعد، على مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق (رفيق الحريري) وشكلت محكمة دولية لأجله.لكنها لم تحرك ساكن لانقاذ شعب آمن من ابادة محققة تحصل له أمام أنظار جيشها الجرار المحتل للعراق.يبدو أن مسيحيي العراق لا قيمة ولا وزن لهم في حسابات المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة!!!


أخيراً: ان حال مسيحيي العراق يفتح الباب أمام تساؤلات كبيرة ليس حول مصير ومستقبل هذا المكون العراقي الأصيل فحسب، وانما حول مصير ومستقبل مسيحيي المشرق عموماً.فالمشهد العراقي الأليم قابل لأن يتكرر في دول عربية واسلامية مشرقية أخرى تحمل في داخلها كل عوامل وأسباب الانفجار والتفكك.بتعبير آخر،أن تلاشي quot;المسيحية المشرقيةquot; في بعض دول المشرق والمغرب الاسلامي وانحسارها المقلق في بعضها الآخر - بعد أن تلاشتquot;اليهودية المشرقيةquot;- تطرح اشارات استفهام كبيرة حول مستقبل ظاهرة التعددية الثقافية والاجتماعية والدينية في هذه المنطقة الخاضعة لحكم وسلطة الاسلام والمسلمين. بتعبير أوضح، أنها تطرح بقوة مسالة قدرة quot;الاسلامquot; على التعايش والتواصل مع غيره من الديانات والثقافات الأخرى.

سوريا
باحث آشوري مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]