الفواجع و المصائب و الكوارث التي تهاطلت على رؤوس العراقيين منذ إنقلاب الرابع عشر من تموز الأسود عام 1958 ضد الشرعية الدستورية وضد النظام الملكي الذي أسس العراق الحديث و أوجد له مكانا تحت الشمس بمساعدة بريطانيا كما نعلم وتعلمون، قد بلغت حدودا قياسية كارثية في حجمها و شكلها و طبيعتها، وقد عاش الشعب العراقي بمختلف طوائفه وملله و نحله وعشائره أيام سوداء طويلة منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى أوائل الألفية الثالثة التي عاد خلالها العراق القهقرى لعصور الإحتلال الأجنبي، الشعب العراقي بمجمله العام كان متورطا في النزاعات الحزبية الداخلية وكانت الجماهير مأخوذة بالكامل بمرحلة الإفرازات التي أفرزتها الحرب الكونية الباردة ونمو التيارات اليسارية الشيوعية ثم الإنغماس في حالة الصراع الدموي و الشديد الوطأة و الكلفة بين أهل اليسار و تيار القومية العربية و ما نتج عن ذلك من كوارث بشرية مريعة عام 1963 و بما هيأ و عبد الطريق الفعلي لقيام دكتاتورية حزبية لنظام بعثي إدعى العمل القومي بينما مارس من القطرية و التفكك القومي الشيء الكثير ميدانيا، الشعب العراقي لم يسقط النظام الملكي رغم إنخراط بعض فئاته في أحزاب سياسية كانت تدعو لإسقاط النظام الملكي و إقامة الجمهورية على النمط الذي تم في مصر بعد حركة 23 يوليو 1952 و لكن النظام الملكي الهاشمي في العراق كان مختلفا بالكامل عن نظام أسرة محمد علي باشا الألباني في مصر مثلا، فحكم الأسرة الهاشمية للعراقيين إتسم بالبساطة وعدم التكلف في الطقوس الرسمية أو الإبتعاد عن الشعب في القصور الفارهة و الخيالية، ولم يكن الهاشميون ينظرون للعراقيين نظرة إستعلاء و ترفع كما كان الحال لنظرة حكام مصر لشعبهم بإعتبارهم مجرد ( فلاحين وهمج )!

المسألة في العراق كانت مختلفة بالمرة، لقد تركت أسرة محمد علي في مصر قصورا منيفة لم تزل حتى اليوم رموزا شاخصة لتلك المرحلة من تاريخ مصر، بينما لم يترك النظام الملكي الهاشمي في العراق مثل تلك القصور بل كان قصر الزهور الذي يعود للملك غازي بن فيصل قصرا بسيطا، كما كان ( قصر الرحاب ) الملكي الذي شهد مأساة نهاية العائلة المالكة عام 1958 فيلا متواضعة قياسا بقصور تلكم الأيام وليس هذه الأيام طبعا!!

وسرعان ماتم تحويله ليس لمتحف كما فعل المصريون مع قصر عابدين بل لمركز تعذيبي رهيب تداس فيه كرامات الرجال!! على يد البعثيين الأراذل.. المهم إن ثلة من الجيش بقيادة عدد من الضباط أسقطوا النظام الملكي في العراق وأسسوا لجهنم عراقية حمراء ولم يكن دور الشعب سوى التفرج أما الرعاع و الدهماء فقد مارسوا ساديتهم في النهب و ( الفرهود ) و إستغلال تدهور الأوضاع ثم تطورت القصة لحكاية سحل الجثث و تقطيع الأوصال البشرية و كأنما تلك الجموع لم يكن يحكمها و يوجهها لا دين و لا ضمير و لا مشاعر بشرية، لقد كانت أشلاء العائلة المالكة في العراق التي توزعت على شوارع بغداد بعد أن قام الإنقلابيون بفعلتهم الخسيسة العنوان الشامل للأيام العراقية القادمة، فالعسكر وهم يهدمون أسس و جدران أول نظام وطني قام بعد سقوط بغداد أمام جحافل المغول عام 1258 لم يتمكنوا أبدا من السيطرة على الشارع و تهدئة الأوضاع وحيث ترك المجال للساديين و المجرمين و الغوغاء بممارسة أمراضهم الخبيثة، وكان الوضع مختلفا بالمرة في إنقلاب عسكر مصر الذين نفذوا الجوانب الفنية للإنقلاب بحركة عسكرية سريعة و لجأوا للحلول الدستورية في إسقاط حكومة الهلالي باشا و تكليف رجل الأزمات و المواقف الصعبة علي باشا ماهر بتشكيل حكومة بديلة عهد إليها و عن طريق المجلس الدستوري بصياغة نص تنازل الملك فاروق عن السلطة لولده الرضيع وقتذاك أحمد فؤاد، وترك الملك فاروق ليرحل بعيدا لمنفاه الإيطالي كما كان الحال مع جده الخديوي إسماعيل الذي سافر بنفس اليخت ( المحروسة ) لمنفاه الإيطالي أيضا تاركا الحكم لولده الخديوي توفيق عام 1876، تصرف ضباط مصر في عام 1952 لم يكن هنالك ما يشابهه في العراق، صحيح أن الملكية في مصر قد أسقطت عام 1953 ولكن ذلك أمر تم بهدوء ومن دون إسالة نقطة دم واحدة! بينما كانت شوارع بغداد تطحن عظام نوري السعيد و تقطع الأعضاء الذكرية للوصي الأمير عبد الآله بن علي الهاشمي ( حفيد الإمام الحسين ) ومارس الدهماء غرائزهم الدموية بينما كان أغبياء الضباط الإنقلابيين في حالة إنشغال تام بالبلاهة التي تسببوا بها و بخيانتهم لقسم الولاء للعرش و النظام و الشعب وحصل ماحصل، العراقيون كشعب دفعوا أثمانا بهظة ولا زالوا يدفعون في ظل سلبيتهم القاتلة و تأثرهم بالرياح الدولية و الإقليمية و إنقساماتهم المريضة وتفرجهم على صراع الأقوياء فما أن يسقط أحدهم حتى تنهال عليه المعاول و السيوف و السواطير، لقد مارس البعثيون عام 1963 جرائم بشرية مروعة وقف أمامها الشعب متفرجا وشارك البعض فيها ولم يحسم الأمر إلا تدخل الجيش العراقي لمتابعة وملاحقة أجلاف الحرس القومي و تخليص الناس من شرهم و بأوامر من الرئيس عبد السلام عارف، وقبلها قاتل اللواء عبد الكريم قاسم خصومه البعثيين في ممرات وزارة الدفاع في باب المعظم ولم تنفعه شعبيته بين البسطاء ولم يقف أحد لجواره بل إستسلم لقدره ليلاقي الموت و الإعدام في إحدى غرف إذاعة بغداد!!

ولا أدري لماذا إستسلم رغم أنه يعلم بأنه صريع لا محالة؟ فهل كان يطمع مثلا في عفو و القوم قد هاجموه بالدبابات و الطائرات و أغتالوا جميع أركان نظامه في وصفة إنتقام وحقد عراقية معروفة وموثقة؟ ثم جاء حكم عبد السلام عارف ورحل لربه في حادث طائرة غامض لم تعرف حقيقته حتى اليوم عام 1966 وجيء بأخيه الأكبر اللواء عبد الرحمن عارف رحمه الله ليسد الفراغ الكبير وكان عهدا إنفتاحيا مسالما لم يعرف العنف و التقتيل و التعذيب حتى تآمر عليه من كان مكلفا بحمايته في المخابرات العسكرية و الحرس الجمهوري ليسلموا العراق صبيحة يوم 17 تموز/يوليو 1968 لمجموعة بعثية عسكرية بائسة كانت مثالا للغدر و القتل وكان الشعب غائبا بين نائم ومصفق و مخدوع و نائم، وكانت القوى الوطنية العراقية في حالة إنقسام مما سهل مهمة التسلل الفاشي لعصابة سلطوية من نوع جديد قادت العراق في النهاية نحو نهاياته المفجعة و أنتهى النظام الذي جاءت به المصالح الغربية على يد الغرب نفسه بعد مخاضات وتطورات مرعبة ومعروفة، ويوم سقوط بغداد عام 2003 خرجت جماهير الفرهود في مهرجان الحواسم المسرحي! وجاءت أحزاب التخلف التاريخي لتفرض سطوتها بعد غياب الكيان الدكتاتوري و الحزب الأوحد الذي حطمته الغارات الأمريكية و البريطانية وليست أيادي الشعب العراقي، فسقوط بعث العراق كان تحت جنازير الدبابات الأمريكية و البريطانية ولافضل لأي حزب أو فئة أو طائفة فيما حصل.. وتكررت المأساة و أنقسم القوم وعادوا لولاءاتهم وجحورهم القديمة من عشائرية و طائفية و أنتهى المشروع الوطني تحت ظلال رايات قريش، وجاءت أحزاب الدعوة و المجلس و الفضيلة و الصدريين و الأخوان المسلمين وغيرهم من الملل و النحل لتحاول سد الفراغ ليس عبر مشروع وطني شامل بل عبر ثقوب طائفية ودستور تحاصصي طائفي و عملية سياسية ديمقراطية ولدت مشوهة لأن من تمسك بها لا علاقة له بالديمقراطية أبدا، فالأحزاب الدينية و الطائفية لا تصنع وضعا ديمقراطيا بل تخلق زمر لصوصية و عصابات سلطوية وهو ما حصل و مآسي العراق خلال السنوات العجاف الماضيات لا نظير لها على المستوى الكوني، وسنوات الفشل في تعويض سنوات الدكتاتورية السوداء هي من علامات فشل التغيير في العراق الموبوء بأمراض العشائرية و الطائفية النتنة، لقد إرتكب الطائفيون جرائم شنيعة ولكن لم يحاسبهم أحد بل كانت تلك الجرائم تمر مرور الكرام و كان الشعب العراقي في وادي آخر وهو يهرب من وطنه في الجملة و المفرق حتى ملت الدول المانحة للجوء من تزايد أعداد العراقيين في بلد يتشدق فيه وزير نفطه الشهرستاني بكونه من أكبر الدول في الإحتياطيات البترولية..؟ إنها المهزلة المشبعة بفصول الدم و الأشلاء.. فمتى يثور العراقيين و يصححوا التاريخ و يدافعون عن سمعتهم التاريخية..؟

إنه سؤال تائه بحجم الدياسبورا العراقية.... التي تحولت لهولوكوست عراقي جديد.. ولا خير في وطن يكون السيف عند جبانه و المال عند بخيله و الرأي عند عديمه..؟.

[email protected]