مرة أخرى أفرغ إرهابيون إسلاميون بنادقهم في أجساد أطفال ونساء وشيوخ أبرياء كانت مسيحيتهم هي تهمتهم وحضورهم الصلوات الكنسية دليل إدانتهم. مرة أخرى فجر متطرفون قنابلهم في كنيسة تزرع في أبنائها مباديء الحب والسلام والتسامح والمغفرة. مرة أخرى سالت دماء طاهرة على أيدي شياطين يؤمنون بالشر ويقدسون العدوان ويرفعون رايات الكراهية. عشرات الشهداء والجرحى روت دماؤهم ساحة كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك ببغداد بسبب الحقد الذي يكنه الأثمة للمسيحية والمسيحيين. لن تكن جريمة كنيسة العاصمة العراقية العمل الإرهابي الأخير الذي يقصدون به اجتثاث المسيحية من الشرق الأوسط، فقد سفك وسيظل يسفك المسيحيون دماءً كثيرةً طالما تواجد الإسلاميون المتطرفون. تعتصر القلب الألام مشاطرة الأسر التي فجعت برحيل ذويها. ولكن الألام لا تدوم كما علمتنا مسيحيتنا، فهي تنتهي دائماً بالمجد. فمجداً للضحايا ومجداً لأسرهم.

شهد العراق على مدار السنوات السبع الماضية مئات الهجمات التي استهدفت إبادة المسيحيين العراقيين. كان تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين مسئولاً عن الغالبية العظمى من تلك الهجمات. آلاف الضحايا من الأبرياء المسيحيين قتلوا أو جرحوا أو عذبوا من دون سبب إلا لأنهم من المؤمنين برسالة خلاص السيد المسيح، على العكس من الضحايا العراقيين الأخرين الذين قتلوا في إطار الصراع الطائفي/السياسي بين السنة والشيعة هناك. تسبب استهداف المسيحيين في هجرة عشرات الألاف منهم إلى مناطق أكثر أمناً في الشمال أو خارج العراق تماماً. كان ولا يزال الهدف الواضح لكل العمليات الإرهابية التي استهدفت المسيحيين هو تفريغ العراق من مسيحييه في ما يعد أسوأ عمليات التطهير العرقي التي شهدناها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

لكن العملية الإرهابية التي شهدتها كنيسة سيدة النجاة والتي تابعنا أحداثها المأساوية الأحد الماضي لم تأت لنفس الهدف الذي قصده الإسلاميون في الماضي. جاءت عملية كنيسة النجاة تحمل هدفاً مغايراً ومدهشاً بعض الشيء تمثل في نصرة quot;المسلمات المستضعفات الأسيرات في أرض مصر المسلمةquot; كما ذكر تنظيم دولة العراق الإسلامية منفذ العملية. لم يكن للعراق دخل بقضية quot;المسلمات الأسيراتquot; ويقصدون هنا وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة التي أثارت الإرهابيين والتي قاموا بسببها باقتحام الكنيسة وقتل العشرات من الأبرياء المسيحيين العراقيين. قضية وفاء وكاميليا مصرية داخلية مائة بالمائة، وكم كان مؤلماً وعصياً على القبول أن يدفع الأشقاء في العراق ثمن معالجة القاهرة الخاطئة لقضية مصرية داخلية. لم يعجز الإرهابيون بالطبع عن ارتكاب عمل إجرامي في مصر، ولكنهم لم يرغبوا في إغضاب قوات الأمن المصرية التي ترعاهم وتربطهم بها علاقة تحالف قوية. فكان العراق لهم الهدف الأمثل والأسهل.

ما أن وقعت عملية كنيسة سيدة الانجاة الإرهابية حتى انطلق المحللون السياسيون الإسلاميون والعروبيون يشيرون بأصابع الاتهام إلى إسرائيل أو إيران. أسهب المحللون كل حسب انتمائه في شرح الفوائد التي يمكن أن تعم على تل أبيب أو طهران كلما تفجرت النعرات العرقية والعنصرية والطائفية في الدول العربية وكلما تزعزع الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. ولأن العقل العربي مشغول دائماً بنظرية المؤامرة فقد ضاعت الحقيقة في معظم التحاليل. ضاعت الحقيقة التي يعلمها الموضوعيون والتي تستبعد تماماً أية علاقة لعملية كنيسة سيدة النجاة بإسرائيل أو إيران. صحيح أن لكلا الدولتين مصالح في العراق، ولكن من المؤكد أن استهداف وكراهية المسيحيين عمل إسلاموي بالمقام الأول، وأن أي محاولة لاتهام أي طرف أخر هي محاولة لتمييع الأمور وتغييب الحقيقة.

لست أستبعد أبداً أن تكون العملية الإرهابية بكنيسة سيدة النجاة قد تمت بتخطيط مشترك بين متطرفي مصر والعراق وربما دول أخرى. لعل المتابع للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط يلاحظ أن جهود الإسلاميين بمختلف انتماءاتهم التنظيمية تلتقي حول هدف واحد وهو شرق أوسط مسلم بلا مسيحيين، وفي هذا الإطار تتشابك خيوط العملية الإرهابية في كنيسة سيدة النجاة مع النشاط الواضح للتيار الإسلامي المتطرف الذي تشهده مصر في الفترة الأخيرة. تزامنت العملية التي نفذها تنظيم دولة العراق الإسلامية القاعدي بغرض مساندة من يُدّعى بأنهن مسيحيات تحولن للإسلام في مصر مع المظاهرات الحاشدة التي نظمها الإسلاميون السلفيون في مصر في الأسابيع الأخيرة لنفس الغرض، وهي المظاهرات التي تم فيها تهديد المسيحيين بأنهار من الدم. وعليه لم يكن غريباً أن تنقل وكالات الأنباء عن مصادر عراقية مطلعة بالنتائج الاولية للتحقيقات في جريمة الإسلاميين بكنيسة سيدة النجاة عن وجود مصريين بين المجرمين الذين نفذوا العملية.

ليس غريباً أن يتعاون متطرفو التنظيمات الإسلامية سوياً لتحقيق أغراضهم الدنيئة، فجميعهم يدينون بالولاء والطاعة لسيد الإرهابيين أسامة بن لادن وكلهم يعملون تحت إمرته. ترفض الحكومة المصرية الاعتراف بوجود أتباع لتنظيم القاعدة في مصر. ربما كان تقييم الحكومة المصرية سليماً إذا ما نظرنا للأمر من منظور تنظيمي ضيق، ولكن من المؤكد أن علاقة قوية تربط بين تنظيم القاعدة والإسلاميين السلفيين المصريين الذين يجاهدون ضد المسيحيين عبر مهاجمة العقيدة المسيحية والعمل على أسلمة المجتمع وإجبار المسيحيين وبخاصة الفتيات على التحول للإسلام. لم تعد العلاقة التنظيمية بين تنظيم القاعدة الأم في أفغانستان والتنظيمات الفرعية المنتشرة حول العالم مطلوبة نظراً للملاحقات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في مختلف الدول، ولذا تحولت العلاقة بين الجماعات القاعدية إلي مجرد علاقة تواصل وتفاهم وشراكة وأهداف واحدة، وإن كان من المؤكد أن تنظيم القاعدة لا يبخل عن مؤيديه أينما وجدوا وكيفما تسموا بالمساعدات المعنوية واللوجستية والتقنية إن لزم الامر.

كان قاسياً تماماً أن يتعرض المسيحيون العراقيون الذين لم تندمل جراحهم من جراء الإرهاب الذي عانوه طوال السنوات السبع الماضية. وكان قاسياً أيضاً أن نعرف أن الإرهابيين الجبناء قاموا بعملهم الوضيع لتحقيق أهداف لا علاقة لمسيحيي العراق بها. لا شك في أن المسئولية عن الهجوم الإرهابي يجب أن يتحملها متطرفو مصر الذين ملأوا الدنيا صراخاً بشائعات وأكاذيب مغرضة. فلا وفاء قسطنطين تريد أن تكون مسلمة وقد أعلنت ذلك أمام النائب العام المصري، ولا كاميليا شحاتة أشهرت إسلامها كما تؤكد مشيخة الأزهر المسئولة عن حالات إشهار الإسلام. ولكن الكراهية التي تملكت من متطرفي مصر هي التي تدفعهم لإشعال مصر عبر مظاهرات بذيئة تعكس أخلاقهم الرديئة ومبادئهم الدنيئة.

لا يغفل على أحد الدور الذي لعبته الحكومة المصرية في القضية، فقد سمحت القاهرة منذ سنوات للإسلاميين بالعمل والانتشار وفرض رؤاهم ونشر تعاليمهم المتطرفة في إطار علاقة التحالف التي تربط بين الجانبين. ومنحت النظام الحاكم الإسلاميين الحرية الكاملة لتخريب مصر وفتحت أمامهم كل أبواب المجتمع المصري. كان ذلك في مقابل تعهد المتطرفين بالتوقف عن أعمال العنف التي قد تهدد سلامة النظام الحاكم. لم تحرك جهات الأمن المصرية ساكناً لإيقاف التظاهرات الخسيسة التي اندلعت بحجة استعادة وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، بل أن مقاطع للمظاهرات تمت إذاعتها على مواقع الإنترنت تدين أجهزة الأمن لأنها أخذت موقف المتفرج حين تعلقت الهتافات بالمسيحيين وبالكنيسة في الوقت الذي منعت فيه بصرامة المتظاهرين من التعرض للنظام وأجهزته. وقد كان عجيباً أن يدعو الإسلاميون، في مشاهد لم نعتدها، لقوات الأمن بالهداية!

إن اختطاف رهائن أبرياء أثناء ادائهم الصلوات في دور عبادتهم ثم قتلهم عملية لا يقوم بها إلا عديمي الضمير والإحساس والإنسانية. لم يكن مسيحيو العراق بحاجة للمزيد من الجراح في جسدهم النازف. لقد حذر الكثيرون النظام المصري الحاكم من خطورة التحالف مع الإسلاميين وحذروا من خطورة التمادي في الصمت على نشاط المتطرفين ومن إمكانية حدوث ما لا يحمد عقباه نتيجة عدم كبح جماح من يسعون لتفريغ المنطقة من مسيحييها. ها قد حدث الانفجار في مسيحيي العراق الأبرياء. المؤسف أن الحكومة المصرية لم تحترم مشاعر المسيحيين العراقيين ولا مشاعر المسيحيين المصريين حين سمحت للإرهابيين بتنظيم مظاهرة جديدة في الإسكندرية بعد أيام قليلة من جريمة كنيسة سيدة النجاة.

أخيراً يتحدث البعض عن تهديد تنظيم القاعدة لمسيحيي مصر. لا يبدو لي اليوم أن مسيحيي مصر في خطر التعرض لهجمات إبادة كالتي تحدث في العراق بسبب التأمين الذي يوفره لهم التحالف الحكومي/الإسلاموي، أللهم إلا إذا تخلى المتطرفون عن تعهدهم بالتخلي عن العنف، وهو ما سيحدث من دون شك في يوم من الأيام حين ينقلب الإسلاميون على النظام. لن يحدث إلا حين يتمكن المتظرفون تماماً من زمام الأمور في المجتمع المصري. ولكن اليوم المشئوم هذا يقترب بسرعة وبوتيرة ثابتة، للأسف.

[email protected]