لا يخلو أي عمل سياسي من تعارض وصراع بين استراتيجيات واستراتيجيات مضادة. بل يمكن القول إن جوهر كل عمل سياسي وطني او اقليمي او دولي متعدد الفرقاء ومتعارض الرهانات ومتنوع المصالح هو هذا التضاد والصراع بالذات. وهو يحتد تارة وتتراجع حدته تارة اخرى بحسب الشروط العامة التي تجري فيها الصراعات ويتمظهر فيها التضاد.

كل استراتيجية هي عبارة عن عدد معين من العناصر المتضافرة بعضها واع ومعلن من قبل اصحابها بينما بعضها الآخر قد لا يكون معلنا فحسب وانما يتم الحرص على الاحتفاظ به في طي الكتمان اي انه موضوع اخفاء منهجي ومتعمد حتى لا تتأثر الممارسة السياسية ورهاناتها بانكشاف تلك العناصر امام الخصوم الذين سيبادرون الى العمل على تعطيل مفعولها وحرمان اصحابها من الاستفادة منها لو ظلت وراء الستار، ولم يفطن لها الخصوم والاعداء.

إن الاصرار الذي يبديه صانع القرار الاستراتيجي في مختلف المجالات، وخاصة السياسية منها، في عملية اخفاء بعض العناصر الاساسية المكونة لاستراتيجيته لا يوازيه الا إصرار الخصوم من جهتهم على العمل والقيام بكل ما يمكن القيام به من اجل كشفها وتعطيل مفعولها من جهة، والاصرار من جهة اخرى، على إخفاء واقع كون تلك العناصر مكشوفة لديهم حتى لا يدرك الآخر هذا المعطى الجديد فيعمل على تغيير استراتيجيته في الوقت المناسب وقبل ان ينتبه لذلك خصومه الذين استطاعوا كشف تلك العناصر. وهكذا فإننا امام عملية كتمان مزدوج على الدوام: الكتمان الذي يطال الاستراتيجية الخاصة وصنوه المرتبط الخاصة باستراتيجية الآخر. وهذا هو المبرر الرئيسي الأول لكل عمليات التآمر التي تعرفها كل حياة سياسية بهذا القدر اوذاك.

وبالفعل، فإن المؤامرة تلعب دورا هاما في الصراعات السياسية المفتوحة بين القوى السياسية المتباينة، غير انه لا يمكن اختزال كل الصراعات السياسية في بعد المؤامرة فيها، لأن المؤامرة لا تغطي كل العمليات السياسية وجوانب الصراع فيها قاطبة، وبالتالي، لا يمكن تفسير تلك الصراعات من خلال هذا العنصر حصرا مهما بدا بارزا على هذا المستوى او ذاك. لان القيام بذلك يعني الوقوع في مرض سياسي عضال يعطل كل مفاهيم الاختيار والمسؤولية والقدرة على تقدير الاوضاع التي تجري فيها اشكال الصراع التي تعرفها مختلف المجتمعات والدول ويحرم بالتالي من القدرة على الاستشراف والتوقع.

والمؤامرات انواع وأشكال مرتبطة بطبيعة المجالات التي يتم تناولها من حيث كونها بؤرة الصراع. لذلك يمكن الحديث عن المؤامرة العسكرية التي قد تتخذ هي ايضا اشكالا متعددة كما يمكن الحديث عن المؤامرة السياسية الداخلية والخارجية على السواء.

وعلى مستوى آخر يمكن اعتبار التزوير في الانتخابات والاستفتاءات الشعبية مؤامرة من حيث كونه يستهدف اخفاء حقيقة اوزان القوى الاجتماعية والمنظمات السياسية المتنافسة على ساحة سياسية بعينها. وهو عنصر حاضر بهذا القدر اوذاك في كل عملية انتخابية يتم اجراؤها خاصة في المجتمعات غير الديمقراطية حيث يكون الصراع على السلطة مفتوحا بين القوى السائدة التي تحاول ادامة سيادتها وبين القوى التي تتطلع الى ممارسة الحكم باي ثمن ولو من خلال اللجوء الى اعتماد مختلف اساليب التزوير للارادة الشعبية. وفي الحقيقة إنه لا حصر على الاطلاق لهذه الاساليب اذ يمكن ان تبدأ بالقانون الانتخابي مرورا بتحديد الدوائر الانتخابية في المدن والارياف وصولا الى استعمال الدعايات والاشاعات المغرضة وشراء الذمم وتغيير النتائج عنوة بعد اعلانها في مختلف مكاتب التصويت.
اعتماد نظرية المؤامرة يكشف في العمق منطق التهرب من المسؤولية وعدم الاستعداد لتحمل نتائج التكتيك الفاشل او الاستراتيجية عير المتناسبة مع ضرورات الواقع الذي تمارس فيه.
إن الاعتراف بامكانية المؤامرة لا يبرر باي حال من الاحوال تفسير كل شيء بواسطتها لان في ذلك نوعا من الدعوة الضمنية الى العدمية السياسية والتاريخية. فبدل محاولة اثبات تدخل التآمر في صنع الاحداث وهدر الطاقات في مقتضيات اعتماد نظرية المؤامرة كمفهوم لتفسير مجمل الاحداث الكبرى والصغرى الثانوية والمصيرية التي تعرفها الساحة السياسية فإن المطروح هو التركيز على رصد وحصر المعطيات الفعلية ومحددات السياق الذي تجري فيه الممارسة ومحاولة الوقوف عند العوامل الاساسية لتمييزها عن العوامل الاقل اهمية في عملية صنع الحدث.
ولا مراء في ان اعتماد نظرية المؤامرة في مواجهة الاخفاق السياسي او التنظيمي وفشل الاستراتيجيات المعتمدة من قبل صانع القرار الرسمي او الحزبي عامل اضافي في تكريس الفشل وتعميقه وسد المداخل الممكنة لمواجهة اسبابه الحقيقية والانتصار عليها.