عند بداية سنوات الثمانين من القرن الثامن عشر، قام قديس بروتستانتي اسمه (Johann.F. ZOuml;llner) بعد أن أثار غضبه اقتراح تقدم به شخص غير معروف لإلغاء الزواج الديني، في ظل أجواء مشحونة بالأسئلة والشك، طرح على عدد من الفلاسفة ومنهم الفيلسوفquot; إيمانويل كانطquot; سؤالا مباشرا ومختصراquot; ما هو التنوير؟quot; وجاء جواب كانط بعنوان: laquo;رد على سؤال ما هو التنويرraquo;، نشر للمرة الأولى في العام 1784 في هذه الإجابة الكانطية الغنية جدا، أربع محددات لتوفر التنوير وتعميمه، وهي الدولة والحرية والعقل والتاريخية. هذه المحددات بوصفها هما كان مطروحا آنذاك على الفلسفة الألمانية والفكر النقدي وفي ظل انخراط أوروبا بالعصر الصناعي، السؤال والجواب كانا من تفاصيل التاريخ اليومي لألمانيا ومحيطها الجغرافي آنذاك، وهذه المشروطية وإن كانت تحمل بعدا عالميا بالمعنى الإنساني، إلا أنها من جهة أخرى شكلت حالة معيارية للحكم على واقع ألمانيا في ذلك الزمن بالذات، والأمر الأكثر جدارة بالعالمية هو العقل وحرية التفكير، واستنباط المعايير من تفاصيل المعاش، مهما كانت المقدمات المعرفية أو الأيديولوجية المسبقة متماسكة، ومهما كانت درجة علميتها، لهذا عندما تطورت الفلسفة الألمانية وصولا إلى القرن العشرين وجدت أن هنالك مبحثا خطيرا مغفلا وهو ما بحثته الفلسفة الظاهراتية، حيث بات متسعا من المساحة للموضوع المدروس أو المطروح أيا كان طبيعيا أم اجتماعيا، يفرضها على المنهجيات التي تتعامل معه، لكي لا نجد أنفسنا أمام معايير حكم مسبقة ومحددة وفقط، وهذا شكل إضافة لايستهان بها للفكر النقدي العالمي. التنوير هو استخدام حر للعقل وعام ومفهمة للظواهر المعاشة، من أجل الانعتاق من تحكمها بالعقول وبالقلوب وبطرق العيش. وربطquot; كانطquot; بين الاستخدام العلني والعام للعقل وبين ضرورة الحرية والدولة. بدونها يبقى الطاغية يتحكم بنا حتى لو كان التحكم منافيا لحرية الكائن وعقله المفكر، ويبقى اللاهوتي يحثنا على الإيمان بجملة مسبقاته، حتى لو كانت منافية للحياة، بعد هذه المقدمة نجد أنفسنا امام سؤال بسيط، وهو هل يصلح ذلك العصر بتنويره أن يكون معيارا نحكم من خلاله على الظواهر وعلى أنفسنا في هذا الزمن أي بعد أكثر من قرنين وثلاثة عقود؟ هذا السؤال لا يشكل بحد ذاته حكما سلبيا أو إيجابيا على أي شيء، بقدر ما هو محاولة للفهم. هذا سؤال يخص التنويريين في المنطقة عموما وسورية خاصة، لأنها موضوعنا.

هذه العودة أيضا يحملها الإسلام السياسي لفترة 14 قرنا ويريد أن يحملنا معه، وكذلك الحال الماركسي لقرنين من الزمن، وكذا أيضا خليط الفكر القومي يعيش نفس المسبقات ونفس الحنين للعودة، وبمعايير مستقاة من هنا وهناك، متمحورة حول مفهوم الهوية، ولا يغيب عن لوحتنا هذه من هم أقرب لتقليد النموذج الغربي، كما أشعر بنفسي، وربما تعتبر الدعوة هذه للتقليد عند الكثيرين، عبارة عن كسل فكري وسياسي، وأحيانا تتمرغ باتهاماتquot; العمالة لهذا الغرب، لأن الغرب لازال من أهم أسباب حداثتنا الضعيفة المنخرطين فيها عنوة، وفق تنضيدات هذا الغرب التي تفرزها مصالحه، لا يبدو في الأفق أن هذه المصالح يمكن لها أن تتغير أو تتزحزح، والمسافة بيننا داخل هذا الفضاء العالمي محجوزة لقوة هذا الغرب على كافة الصعد، وليس أقلها أهمية هي تحوله إلى نموذج لنا.

يقر الإسلام السياسي ان الغرب استفاد من حضارتنا عندما كانت قوية، ودون أي إحساس بالنقص أو المس بالخصوصية هناك، وفيها ما يبهر وما شكل نموذجا ما، وكذلك الحال الفكر القومي العربي على اختلاف مرجعياته يقر بذلك، والأهم من كل هذا أن هذه التيارات تفتخر بأن أهم منجز هو ما أخذه الغرب عن ابن خلدون وابن رشد، عن العقل والتفكير الحر، لكنهم يريدون الآن أخذ منجزات الغرب التي تمنحهم القوة وبناء على عقل تقادمي! وهذه لا تستقيم، فكانط وعقل التنوير الذي استفاد من حضارتنا وأنتج حضارته لا يعنيهم كإسلاميين، تماما كما لا يعني العلمانيون شكل الدولة التاريخي الموجود، وآليات الحكم وتجربة الحرية بمعناها الإنساني، بقدر ما يعنيهم: فصل الدين عن الدولة كمقدمة المقدمات وكنتيجة النتائج. لا تعنيهم حرية العقل في التفكير العام والعلني، والذي هو المؤسسة الأكثر ديمومة وتأسيسا للحرية والعلمانية معا، لأن هذه ليست مرتبطة إلا بوجود الدولة بلا طاغية، والتي تتبادل المصلحة والاستمرارية بالعلاقة مع حرية التفكير العام، وليس المرتبط بسلطة آحادية حتى لو كانت شديدة العلمانية، وإلا لو كان الأمر كذلك لاحتفظ الغرب بتراثه الهتلري أو الموسوليني وتابع انجازاته العلمانية أو حتى لتابعت الستالينية انتصاراتها المظفرة. رغم أنني اكرر ما أقوله دوماquot; الغرب محنتنا والغرب قدوتناquot; الغرب اعتمد في نهضته وعلى كافة المستويات على ما سبقه من حضارات، ونحن نريد الاعتماد على بعض من الغرب، ننتقيه حسب مسبقاتنا، أو على ما تجاوزه العالم كله حضاريا بقرون وقرون. تتكاثر لدينا دعوات الهوية، والانتقائية الغربية، والأكثر من هذا وذاك هوquot; دعم الطغم العسكرية الفاسدة بمواجهة المجتمعquot; والحجة الدين في هذا المجتمعquot; في نسخة ميكافيللية مصلحية فاسدة منطقيا وأخلاقيا. مكافيللية نسوا أن أهم ما فيها هو مواجهة طغم الكنيسة الحاكمة بالعسكر والقوة والفساد تحت اسم الدين، فهل الدين يحكم السياسة والدولة في سورية؟

التفكير بالدولة والسلطة والشأن العام هو حق لكل مواطن، حق كفلته كل الشرائع والأعراف والمواثيق، ولولاها لما أنتجت العلمانية ذاتها نموذجها الجاذب هذا.
كتبت منذ سنوات ان السلطة في سورية يمكن لها أن تقوم بإجراءات كثيرة على المستوى العلماني أو حتى على مستوى حل بعض مسائل عالقة في القضية الكردية على سبيل المثال، لكن كل هذا سيبقى غير مؤسس على مفهوم الحرية والحق العام في التعبير والتمثيل السياسي والمدني، وأي سلطة مشخصنة لا تستطيع قوننة ذاتها تحت سقف الدولة المؤسساتية، لا يمكن لها ذلك دون أن تتقونن السلطة ذاتها وآلياتها.

الشرط التنويري في سورية يحضره غياب الحرية وغياب سيادة الدولة وغياب حرية العقل العام والعلني، تستطيع السلطة السياسية الآن: أن تكنس كل الإسلاميين إلى السجون وهي فعلت قبل ذلك من الباب الثمانيني، لكنها أعادتهم من نافذة التسعينيات على شاكلتها لمواجهة خطر الحرية عليها، وعلو نبرة الخصوصية الثقافية والدينية آنذاك. تستطيع أن تمنع أية ثقافة إسلامية من أي نوع كان، ولن يغير في قضية حرية العقل الكثير، العنوان بسيطquot; الاحتفاظ بالجاه والمال وحرية مطلقة بالقرار العامquot; وما تبقى كله ملحقات يمكن اللعب فيها وعليها بالآن معا. الإسلاميون على اختلاف مدارسهم الآن مرتاحون، لماذا؟ رغم أننا نشاهد الآن تضييقات على بعض رموزهم التي تتعلق بالفرديات المنهكة من منقبات ومحجبات، وعلى بعض رموز فردية استنفذت وظيفتها التسعينية- نسبة لفترة التسعينيات ونشوء هذا التحالف المعلن وغير المعلن بين الإسلام السياسي والسلطة فيه كانت المتحكمة نسبيا- ولازالت الضحية هي الحريات العامة والفردية.

شعوب كثيرة منها من لها حضارات ربما أهم من حضارتنا الإسلامية أو العربية، ومع ذلك قلدت الغرب ونجحت، ودون أن تعيش عقدة نقص، وأصبحت تنافس الغرب في كل شيء، اليابان والصين والهند وجنوب أفريقيا كمثال عانى ما عاناه من دعم الغرب المزمن لنظام الابارتيد العنصري هناك.
التنوير في سورية: كل النقد للمجتمع وبكل حمولاته لا يلغي من أولوية الإجابة عن سؤال الحرية.

لأن معيار التنوير الأساسي والرئيسي كان الحرية، والمؤسسة التاريخية التي تحميها، وهي الدولة، والتنوير يفصل تماما بين الدولة وسلطة الطاغية مهما تلونت هذه السلطة، وقد عالجت الفلسفة الغربية آنذاك وبعد ذلك مفهوم الطاغية، وإلا لكانت بحثت مفهومquot; الدولة الطاغيةquot; وهذا ما لم نجده، الدولة تصبح طاغية عندما يستولي عليهاquot; طاغيةquot;.