لقد كان هناك جدل كبير في القرن الرابع الهجري بين مدرستين إسلاميتين حول مفهوم الحسن والقبيح في أفعال البشر. فبينما تعتقد مدرسة المعتزلة العقلية أن الحسن والقبيح صفتان ذاتيتان مستقلتان يمكن للعقل أن يدركهما، فجاء الشرع بعد ذلك ليقول أن الحسن جائز لأنه حسن والقبيح غير جائز لأنه قبيح. فالشرع أحل الحلال لأنه حسن بذاته، وحرم الحرام لأنه قبيح بذاته. أما المدرسة الأشعرية الظاهرية فتعتقد عكس ذلك. فالأشاعرة يرون أن الحسن صار جائزا ً ومقبولا ً والقبيح صار غير جائز وغير مقبول لأن الله أمر به فصار كذلك، فالحلال والحرام ما أمر الله به بغض النظر عن أسبابه وعواقبه. أما العقل فإنه قاصر ولايمكنه بمفرده إدراك الحسن والقبيح. هذا الخلاف الذي أغنى الثقافة الإسلامية ينقلنا لعلاقة الدين بالأخلاق.

ماهي علاقة الدين بالأخلاق، ومن يصنع من؟ هل الأخلاق سابقة للدين أم جاء الدين لينتج الأخلاق؟ هل يمكن الفصل بينهما وإعتبار كل ماهو ديني محصور بين الحلال والحرام، وما هو أخلاقي بين الصح والخطأ؟

إن علاقة الدين بالأخلاق قديمة قدم الإنسان على وجه الأرض. فالدين باعتباره نظام من المعتقدات والتطبيقات العملية، كالعبادات والطقوس والشعائر وغيريها، تعبر عن إيمان الفرد بوجود خالق أو أكثر، وهذا النظام يرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالأخلاق التي هي عبارة سلوكيات تعبر عن قيم وعادات وتقاليد تشكل طريقة تفكير الإنسان وكيف ينبغي أن يعيش الحياة. فبينما يرتبط الدين بالوحي والغيب والمقدس، ترتبط الأخلاق بالعقل وتفكير الإنسان والتجربة، لكنهما مندمجان في الواقع ويعبران عن نفسيهما بالثقافة السائدة في زمان ومكان محددين. فالثقافة هي البوتقة التي تنصهر بها كل القيم، إن كانت دينية أم أخلاقية، فتشكل طريقة تفكير الإنسان وتعطيه قناعته التي بها يؤمن ويسلك ويتصرف.

إن الخطاب الإسلامي الحالي والذي يعبر عن نفسه من خلال المؤسسات الدينية لكل المدارس الإسلامية مازال يدور في فلك الشرع في إنتاج فلسفة أخلاقية تكون مرجعية لسلوك الإنسان. فقد أهمل المشرع دور العقل والتجربة وخبرة الإنسان إلى حد كبير في معالجة الكثير من المسائل الأخلاقية التي لايستطيع الشرع، المعتمد على الوحي والنص المقدس، من طرحها ومناقشتها وإيجاد حلول لها. من هذا المسائل موضوع الحرية بكل أنواعها وحقوق الإنسان والمساواة وغيرها. فموضوع مثل إلغاء عقوبة الأعدام وإجهاض من تحمل عن طريق الإغتصاب وحق الإنسان بالإنتقال من دين إلى دين آخر مازالت تعالج من خلال الحلال والحرام، بالرغم من وجود مساحة للمستحب والمكروه بينهما. هناك أشياء يفعلها الإنسان لايبدي الشرع فيها رأيا ً بل تعتمد على إجتهادات المشرعين. فموضوع الزواج من أمراة ثانية مثلا ً هو مقبول شرعا ً لكن به بعد أخلاقي مهمل حول مشاعر المرءة الأولى ومدى قبولها للوضع الجديد.

إن طرح هكذا مواضيع من خلال التجربة والعقل وخبرة الإنسان يمكن أن يكون حلا ً للكثير من المسائل بصفتها صح أم خطأ كاسبقية للحلال و الحرام. فالصح والخطأ أشمل من مفهوم الحلال والحرام، ولابأس إذا أعتمد الشرع على الصح والخطأ كمافعل المعتزلة من قبل في تشريع الحلال والحرام. فبينما يعتمد الحلال والحرام على النص المقدس وتفسير المشرع، يعتمد الصح والخطأ على الدافع والعاقبة والنتائج لفعل الإنسان. هذا لايعني بأن المشرع أهمل الدافع والعاقبة لاكنه يتناولهما من خلال النص المقدس الذي هو نتاج ثقافة سابقة لها ظروفها وحيثياتها وسياقها التاريخي، وأن سحبها وإعادة إنتاجها وفرضها على الثقافة الحالية لهو إجحاف وتعسف بحق العقل والتجربة وخبرة الإنسان. وذلك يؤدي إلى أن يعيش الإنسان حالة من الأزدواجية بين ماهو أخلاقي وما هو حلال أم حرام. وهذا بالفعل مانعيشه اليوم، فهناك مسافة كبيرة تفصل بين مايريده الشرع وماهو أخلاقي أو ما يمكن أن يكون عمليا ً في جعل الحياة أسهل. فكثير من المسائل التي يقول الشرع فيها هي مستحيلة من الناحية العملية فيلجأ المسلم إلى الحيل الشرعية لتفادي إشكالات الحلال والحرام، وأبسط مثل على ذلك موضوع القروض البنكية التي تعتمد على الفائدة المحرمة. فتحريم الربا به بعد أخلاقي لكن الشرع لم يستطع معالجته في العصر الحالي.

نعم لقد طرح الفكر الإسلامي مواضيع أخلاقية كانت جديدة لكنها تعبر عن نفسها بشكل آخرالآن ويمكن أن تعبر عن نفسها بشكل مختلف في المستقبل القريب أو البعيد، فهي بحاجة لمعالجات من نوع إستثنائي. من هذه المواضيع نصرة المظلوم أو مساعدة الضعيف، وغيرها مثل التواضع وفعل الخير. أما الآن فهناك مواضيع مثل المساواة وحرية الإنسان وحقوقه تحتاج لمعالجات مؤسساتيه وثقافة قائمة على مفهوم العقل والتجربة التي لايمكن إهمالها مقابل قراءة نصوص بطريقة تلائم عهود ماضية.

لقد توقف المسلمون في نفس النقطة التي بدأ بها فلاسفة النهضة بإنتاج فلسفة أخلاقية قائمة على العقل والتجربة وخبرة الإنسان. وهذا لايعني إهمال النص الديني بل يدعو إلى إعادة قراءته بشكل جديد ومختلف. تلك القرءة يمكن أن تنظلق من المفاهيم الأخلاقية الجديدة التي لم تكن موجودة، كمفهوم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان. تلك المفاهيم موجودة أصولها في الفكر الإسلامي لكن هي بحاجة لقرءة بشكل جديد. إن القرءة القديمة للنص الديني تنطلق من الفلسفة الوضعية وتتجاوز قليلا ً نحو الفلسفة التأويلية رغم معارضة التيارات السلفية. إن حاجتنا لتغطية كل أمور العصر لقرءة نقدية، أي مابعد التأويلية التي ترتكز على مفهوم المعايير الأخلاقية لقراءة النص.فهذه القراءة لايمكن أن تخرج بأي حال من الأحوال من مفهوم أن كل شيء مباح مالم يأتي نص بتحريمه، تلك القاعدة التي أركنت في زمننا الحالي.

http://www.elaphblog.com/imadrasan