في ظل أوضاع إقليمية ودولية حساسة و معقدة وحافلة بملفات متورمة من الأزمات ، إشتعل الموقف العسكري و الأمني و الإعلامي و السياسي من جديد في مدينة العيون عاصمة الصحراء المغربية بعد الإشتباكات الأخيرة بين السلطات وقوات ألأمن المغربية وجماعة من المحتجين التابعين لمنظمة ( البوليساريو ) المطالبة بإنفصال الصحراء والساقية الحمراء ووادي الذهب عن المملكة المغربية ، وهي الأطروحة التي تبنتها هذه المنظمة منذ الإنسحاب العسكري الأسباني من الصحراء أواخر أيام الجنرال فرانكو عام 1975 وحتى اليوم ، المعركة الجديدة حدثت بعد سلسلة طويلة من المناكفات الإعلامية و السياسية ومن تصعيد للموقف المستمر منذ عقود بصيغة ( لاحرب و لا سلم )! بل بمفاوضات كانت متعثرة على الدوام تحت الرعاية الأممية وكان آخرها اللقاءات التي تمت قبل أيام في نيويورك والتي ستستكمل في الشهر القادم دون القدرة كما يبدو على الوصول لحل توافقي ينهي الأزمة ويعيد قطار الوحدة المغاربية الذي إنحرف عن سكته بسبب هذا الملف تحديدا.. لقد تصاعدت الأوضاع والمواجهات في الفترة الأخيرة بشكل خطير للغاية كانت نتيجته خسارة أرواح بشرية خصوصا بين أوساط رجال الأمن المغاربة كما تداخل في المشهد تعقيدات إضافية كان من ضمنها الإنحياز الإعلامي الأسباني الواضح ضد المغرب و المشاركة بحملة إعلامية تمويهية كان أساسها الخداع و الكذب و التلفيق و إختلاق روايات و أكاذيب لم تحدث مما يؤكد على عمق ودرجة الدور الإعلامي لجماعة البوليساريو لدى وسائل الإعلام الإسبانية التي خلطت الصورة وشوهت الوقائع ، لقد مرت أجيال عديدة وقضية الصحراء تراوح في مكانها رغم تغير دفة القيادة العالمية وإختفاء العالم الإشتراكي ، وحسم ملف الحرب الباردة نهائيا و التي كانت الصحراء إحدى عوالقها ومع ذلك ما زالت القضية مستمرة! و متفاعلة بل و تنذر بشر مستطير!!

منذ أواخر عام 1975 ورغم صغر سننا وقتذاك كنا من المتابعين من ذلك الملف من خلال ( المسيرة الخضراء ) الكبرى التي أوعز بإنطلاقتها الملك المغربي الراحل الحسن الثاني في السادس من نوفمبر عام 1975 وهي مسيرة شعبية مغربية مثلت قضية أعطيت بعدا ستراتيجيا ومصيريا ليس للمغرب فقط بل لمؤسسة العرش المغربية ذاتها التي كانت تعاني وقتذاك من ندوب وجروح خطيرة نتيجة لمحاولتي الإنقلاب العسكريتيين الشهيرتين عامي 1971 ( قصر الصخيرات ) و1972 ( الطائرة الملكية ) ، وهي أحداث مروعة رسمت مشاهدا سوريالية كانت الذروة في المرحلة المعروفة مغربيا ( بسنوات الرصاص و العنف )، وكانت قضية إستعادة المغرب لأقاليمه الصحراوية التي كانت خاضعة للإحتلال الأسباني كما هو شأن أقاليمه الشمالية في ( سبتة ) و ( مليلية ) وجزر الخالدات و جزيرة ليلى وغيرها من الملفات الحساسة و العالقة و المتبقية من المرحلة الإستعمارية الإسبانية ، فكان التركيز المغربي الرسمي على الملف الصحراوي بعد أن أعلنت أسبانيا عن نيتها الإنسحاب من الصحراء ووادي الذهب و الساقية الحمراء مما أدخل المنطقة برمتها في حمى صراعات سياسية وعسكرية كانت أجزاء رئيسية منها تمثل سياسات الحرب الباردة وحيث كانت أنظمة الجزائر ( أيام بومدين ) و ليبيا وبعض الأنظمة اليسارية السابقة في إفريقيا وكذلك كوبا ودول المعسكر الشيوعي السابق والراحل قد ساندت علنا ولوجستيا منظمة البوليساريو مما أعطى للصراع أبعاد دولية أيضا ، ونقل الجيش المغربي عملياته العسكرية هناك مما شكل ضغطا هائلا على الإقتصاد الوطني المغربي الذي أضطر لإدارة إقتصاد حرب في ضوء موارد و إمكانيات مالية محدودة ومع ذلك إستمر الصراع العسكري و الذي تداخلت فيه كما قلنا أطراف عديدة كانت تهدف لتصفية حسابات سياسية وفكرية معينة ومعروفة وكانت محنة لم ينج من تداعياتها أحد وحتى الحركة الوطنية المغربية عانت كثيرا من المواقف المتباينة لأطراف منها في ذلك الملف وهي قضية أخرى ومختلفة!

ولقضية الصحراء أبعاد خاصة لأنها ترتبط أساسا بطبيعة التركيبة الإجتماعية و النفسية للشعب المغربي المنصهر في بوتقة واحدة رغم إنتماءاته و أصوله العرقية المختلفة ، ثم أن المملكة المغربية قدمت تضحيات هائلة ولاتزال في هذا الملف ، كما أن هنالك تداعيات خطيرة في حالة الإخفاق في إدارة ملف الصراع الصحراوي و أهمها مستقبل الوضع السياسي العام ، و أعتقد أن الرأي الحصيف و المثمر يتمثل في بقاء الصحراء ضمن السيادة المغربية مع رفع قانوني ودستوري خاص لقانون الحكم الذاتي الموسع يتضمن مرونة واسعة لأهل الصحراء و للمعارضين بإدارة أمورهم و تنمية الصحراء و البدء في برنامج عمل وطني تنموي شامل و بضمانات دولية أيضا بعد إحداث تغيير في ميثاق منظمة البوليساريو كما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد إتفاق أوسلو ( مع الفارق في التشبيه فالمغرب ليس إسرائيل طبعا )!

و الروابط الصحراوية التاريخية و الإجتماعية الجامعة والمانعة مع المغرب أكبر بكثير من أية طروحات إنفصالية لا جدوى منها مطلقا ، و تشكل مبادرة الملك المغربي محمد السادس في الحكم الذاتي الموسع البنية القوية الأساسية لأي إتفاق مرحلي قادم و بما ينهي الصراع بشكل توافقي لا تتضرر من نتائجه مختلف فرقاء الصراع ، كما قلنا لقد مثلت مسألة إشتعال الموقف العسكري في الصحراء المغربية سابقا صورة من صور الحرب الباردة كما كانت إستنزافا إقتصاديا رهيبا لا ضرورة له لدولة نامية لها برامج وطنية تنموية مثل المغرب ، وقد إستطع النظام الملكي المغربي بذكاء وحصافة في تجاوز العديد من الأزمات الصعبة و المنعطفات الخطيرة بل تمكن في أن يكون نموذجا محترما في دول العالم الثالث كصورة للنظام الذي يعترف بأخطائه و يسعى للمصالحة مع ذاته ومع التاريخ و أن يصحح الإنحرافات السلطوية بل ويعلن في شفافية غير معهودة في العالم العربي عن كل ملفات الماضي السوداء و يكشفها للرأي العام و يمد أياديه لخصومه و لأطراف عملت طويلا على إسقاطه بل و يشركها في السلطة كما حصل عام 1998 أيام حكومة التناوب التي رأسها المعارض التاريخي عبد الرحمن اليوسفي ، لقد إستوعب النظام المغربي كل أخطائه وحاول تصحيها ومايزال يحاول إخراج رؤية ناجحة ومختلفة لإحداث متغيرات حقيقية بدون هزات إجتماعية و سياسية كبرى، ولا حل للنزاع الصحراوي المحتدم غير تقديم التنازلات المتبادلة وبعضها مؤلم من أجل تحقيق الأمن و السلام و التنمية ، وأعتقد أن مسألة نجاح الدعوات الإنفصالية و إقامة جمهورية صحراوية إشتراكية قد أضحت اليوم من أساطير الماضي ! ولاتوجد قاعدة حقيقية لتنفيذها أبدا ، الحل هو في الوصول لتفاهم مشترك وفق صيغة وقاعدة الحكم الذاتي الموسع للأقاليم الصحراوية ووفقا للرؤية الملكية التي طرحها الملك محمد السادس مع ضمانات دولية لتطبيق و إنجاح الإتفاق ، لأنه في النهاية لا بد من طي صفحة هذا النزاع العبثي و إنهاء معاناة آلاف البشر في مخيمات تندوف في العمق الجزائري و العودة لبناء الصحراء و إستثمار مواردها الهائلة و المطمورة تحت تراب النزاعات ، ولاحل بدون تنازلات متبادلة يكون أساسها النهائي وقاسمها المشترك هو مغربية الصحراء ، فالمغرب في تطور مستمر ، والتجربة التنموية المغربية تثير الإعجاب رغم بعض النواقص و المثالب وهي تستحق التشجيع و المساندة و الدعم العربي و الدولي ،والحكم الذاتي الموسع هو الحل الأمثل والذي من شأنه وحده نزع فتيل الموقف و إعلان الصحراء ليس منطقة كوارث بل قطعة تنموية و إستثمارية هائلة قد تعيد رسم الكثير من المعالم على بوابات أوروبا الجنوبية.. التنمية و السلام و مشاركة الجميع هي الهدف الأسمى ، وليحفظ الله العرب و المسلمين من كل سوء...

[email protected]