وظاهر السياق الذي اعتمده الحرفيون يجعل المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في أفعال العباد دون اختيارهم، إلا أن التفصيل يبين أن الأمر ليس كذلك، ولأجل أن نخرج بالنتيجة الصحيحة نرد آية سورة التكوير إلى قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين***لمن شاء منكم أن يستقيم) التكوير 27-28. ثم قال: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) التكوير 29. وكذا في آية سورة الإنسان آنفة الذكر المسبوقة بقوله تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً) الإنسان 29. ثم قال: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) الإنسان 30. وهذه القاعدة تجري في جميع الآيات التي يظهر الجبر في سياقها، كقوله تعالى: (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) المدثر 31. وهذه الآية يمكن مردها إلى قوله تعالى: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة 26. وكذا قوله: (والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم) القتال 17. وبهذا نعلم أن الهدى قد يكون ابتداءً من الله تعالى دون الضلال، وهذا ما نجده في قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) فصلت 17. وهذا النهج السليم الذي ذكرته الآيات التي أشرنا لها يجري في جميع المناسبات التي أشكلت على أصحاب التفسير الحرفي، ومن هنا كان وقوعهم في عدم معرفة ما وراء الحجب التي فتح القرآن الكريم بعضاً من أسرارها، كالعلم بالغيب الذي تتفاوت مراحله ودرجاته حسب الزمان والمكان، أو ما تؤول إليه النتائج المتفرقة في المباحث التقليدية. وبناءً على هذا فقد اختلفت المسميات بين المجمل والمفصل أو العام والخاص وكذا المطلق والمقيد وصولاً إلى الحقائق التي يمكن الركون إليها في معرفة الآثار التي تدل على علم الغيب، أما الغيب المطلق فلا يمكن أن يدرك بالحواس كذات الله تعالى والعندية الإلهية التي استأثر الله بها. فإن قيل: وماذا يطلق على الغيب الذي يستطيع الإنسان أن يصل إلى اكتشاف آثاره؟ أقول يطلق على هذا النوع من الغيب مصطلح quot;الغيب النسبيquot; وهذا النوع تتفاوت في معرفته مدارك الإحساس، وربما يكون غيباً في زمن معين ثم يصبح شهادة في زمن آخر، أو قد يكون غيباً لبعض الناس دون بعض، كالعلوم التي تم اكتشافها، أو أعمال الإدراكات والحواس، فما غاب عن فاقد البصر يعتبر من الشهادة بالنسبة لغيره، وهذا يجري في السمع وفي جميع الحواس. من هنا يظهر معنى قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22. وهذه الآية تدل على أن الحقائق موجودة بنفسها إلا أن ما ران على قلب الإنسان هو الذي حال بينه وبين التوصل إليها إلا ما رحم، من هنا تظهر الأسباب التي تجعل الإنسان لا يمكن أن يطلّع على علم الغيب المشار له في متفرقات القرآن الكريم، كالملائكة والوحي والأسماء الحسنى وكذا النعيم والعذاب أو كل ما يتعلق بالمغيبات التي لا يقوى على إدراكها إلا من خلال آثارها التي تتفاوت طرق معرفتها من إنسان إلى آخر ولهذا كان لا بد من الإيمان بها كما أخبر عنها القرآن الكريم، ومن هنا نجد أن الله تعالى قد أثنى على الذين يؤمنون بالغيب، وذلك في قوله: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) البقرة 3. وهذه هي المرتبة الأولى التي سجلت للمتقين، ويسمى هذا النوع من البيان quot;التصريح بعد الإبهامquot; ويمكن أن يكون الكلام مستأنفاً إذا ما أخذنا بقاعدة quot;التخلية قبل التحليةquot; أي أنهم متقون في ما ينبغي تركه، ثم انتقل السياق إلى فعل ما ينبغي لهم، وعلى هذا التقدير يكون الوقف على quot;المتقينquot; وقفاً تاماً، أما ما يلي ذلك فمتعلقه قوله تعالى: (أولئك على هدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون) البقرة 5. والاحتمال الأول أقرب للصواب وذلك لعدم تفكيك النظم القرآني في ذكر صفات المتقين. قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة) إقامة الصلاة هي الصفة الثانية من صفات المتقين التي قرنت بإيمانهم بالغيب دون أن تخرج عن الفهم المعنوي التابع للصفة الأولى والذي يعلل مؤثراتها التي بينتها المدركات الحسية التي تجعل الإنسان يرتبط بواجب الوجود في التضرع والمناجاة أو كل ما يتفرع على الصلاة التي تكرر خمس مرات في اليوم، كالمحافظة عليها من حيث الوقت والهيئة وما إلى ذلك، فإن قيل: لماذا ذكر تعالى الصلاة بالمفرد دون الجمع؟ أقول أتى سبحانه بالمصدر الذي يقوم مقام الجمع، كما في قوله: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق) البقرة 213. فأطلق الكتاب وأراد به الكتب، وأصل الصلاة في اللغة يعني quot;الدعاءquot; وقد ذكرت في القرآن الكريم بهذا المعنى، كما في قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) التوبة 103. وكذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب 56. وعند انتقال المصطلح إلى الاسم الشرعي أصبح كالعلم على الصلاة المتعارف عليها، كانتقال الحج من القصد. قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) هذه الصفة أقرب إلى تجسيد الإيمان بالغيب وتفرعه على العمل الجماعي المتقن، إذ أن النفقة من الرزق هي بمنزلة المصدق لجميع الأعمال التي بينها تعالى بقوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92. والرزق المشار إليه في آية البحث أعم من الرزق المادي، لاشتماله على جميع الممكنات التي وهبها الله تعالى للإنسان، من مواهب وجاه ومكانة وما إلى ذلك، وعند التأمل في نظم الآية نجد أن الارتباط الملازم لسياقها أخذ بالانتقال من الصفات المعنوية إلى الصفات المادية، أي كل ما يمكن أن يقوم به المتقي من الترك والفعل، وبالتالي يكون مرد هذه المقدمات إلى النتائج التي تخدم الإنسان. بحث في معنى الإيمان: الإيمان هو التصديق، والتصديق من أفعال القلوب ولهذا نجد الكثير من الآيات قد قرنت الإيمان بالقلب، كقوله تعالى: (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) المائدة 41. وكذا قوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106. وقوله تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) المجادلة 22. وقوله: (ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات 14. أما الآيات التي قرنت العمل الصالح بالإيمان فظاهرها يدل على أن الإيمان لا يدخل فيه العمل إلا من الجهة العرفية، وذلك لتغاير المعطوف والمعطوف عليه، من هنا يظهر الفرق في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الحجرات 9. وكذا قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الأنعام 82. وعلى هذا التقدير لا يمكن أن يكون اقرار اللسان بالإيمان داخلاً في معنى التصديق، وهذا ما أشار له تعالى بقوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) البقرة 8. فإن قيل: وماذا عن الآيات التي أثنت على المؤمنين دون الإشارة إلى عملهم؟ أقول: للإيمان مراحل ودرجات، فقد يزيد وينقص، حيث أن الزيادة في الإيمان يكون متعلقها الإخلاص في العمل وإلا كانت سالبة بانتفاء الموضوع، باعتبار أن الصلاح يقود إلى الأصلح، وهذا يدخل تحت المسمى الشرعي للإيمان دون الوضعي، وعند التأمل في مقدمة البحث يظهر أن سبب اللبس الذي يحصل في المصطلحات لا بد أن يرد إلى الأخذ بالتفسير الحرفي الذي حذرنا من الوقوع به، وقد بين القرآن الكريم درجات الإيمان التي تتفاوت بين الناس، كما في قوله تعالى: (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً) النساء 46. وكذا قوله: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) التوبة 124. وبناءً على ما قدمنا يمكننا القول إن الإيمان إذا تلبس بالعمل فلا ينفك عنه إلا بتأثير خارجي أو بسبب ضعف الإنسان نفسه، باعتبار أن مراحل الإيمان أقرب إلى مراحل التقوى التي بينها تعالى بقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن 16. وفي مرحلة أخرى قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) آل عمران 102. وما يقابل هذا نجده ظاهراً في قوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقرة 286. والفرق واضح في هذه الآية بين الكسب والاكتساب، ثم في آيات أخرى نجد أن معنى الاكتساب قد دخل في معنى الكسب، وذلك بعد أن أصبحت السيئات في متناول الأيدي دون تكلف، كما في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الروم 41. وكذا قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) الشورى 30. وقوله: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين ابسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) الأنعام 70. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) الأحزاب 58. أقول: إن ما ينسب هؤلاء للمؤمنين قد أنزل منزلة الصدق في باب المصدق، حتى صارت الأفعال الصادرة من المؤمنين على فرض وقوعها كأنها أمر متلبس بهم من جهة الذين آذوهم دون الحقيقة المرادة من الفعل، وهذا كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) الحجرات 6. ولو كان هذا الكلام بغير القرآن يكون تقديره quot;إن جاءكم فاسق بخبرquot; لأن الثاني يحتمل الصدق وخلافه، إلا أن القرآن الكريم أتى بـ quot;النبأquot; ليبين قوة الفعل الصادر من الفاسق، وإن شئت فقل قوة الفعل التي أجراها مجرى الصدق، من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) المائدة 93. فالآية جمعت الإيمان والعمل الصالح ثم أخرجت العمل باعتبار تضمن الإيمان له، ثم أخرجت الإيمان باعتبار تضمن التقوى له فتأمل. * من كتابنا: القادم على غير مثال
الاعتماد على التفسير الحرفي للقرآن الكريم قد يكون هو السبب المباشر الذي جعل أنصار هذا الاتجاه يؤاخذون بعدم المصداقية في طرح الافكار التي تحتاج إلى ناظم يجمعها من وجه ويبين حقيقتها الاصطلاحية من وجه آخر، وهذا من أهم الاسباب التي جعلت بعض الناس يقع في متاهات ربما تكون وراء الأخذ بالممتنعات التي غلب عليها النص الشرعي من وجهة نظرهم مما أدى إلى التأويل الذي لا يتفق مع المعاني التي وضعت له قبيل الرجوع إلى التفصيل دون الإجمال فتأمل. ومثالاً على ذلك قوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) الإنسان 30. التكوير 29.
- آخر تحديث :
التعليقات