ما كنا لنعادي المحاصصة التي جمّلوها فأسموها (الشراكة الوطنية) لو كانت تأتي للعراق بحكومة تحترم نفسها، قوية وفاعلة، تحقق للمواطن بعض أمنه وبعض حاجاته الأساسية الضرورية.

ولكن لأنها لم ولن تتمخض إلا عن حكومة مهزوزة متناقضة ليس بين وزرائها أقلُ ما يمكن من التفاهم والانسجام، فنحن ضدها، وضد فرسانها الكبار.

لسنا وحدنا، نحن الكتاب السياسيين المستقلين الباكين على الديمقراطية المعذبة في العراق (الجديد)، بل معنا كثيرون من داخل أحزاب المحاصصة، ذاتها، يبطنون غير ما يعلنون من إقرار شديد بشرور تلك المحاصصة، ويتمنون لو كان في أيديهم دفنها وإقامة حكم الأغلبية الذي تجيء به الانتخابات مقابل معارضة قوية فاعلة نشيطة تراقب وتحاسب. ولولا أن المجالس بالأمانات لكشفنا أسماءهم وتفاصيل آرائهم في هذا الخصوص.

فالأكراد نادمون على تحالفهم مع أحزاب الإسلام السياسي، وكارهون لاضطرارهم للتعامل مع قوميين عرب وبعثيين لا يضمرون لهم الخير، لا اليوم ولا في قادم الأيام.
ومن داخل أحزاب الدين السياسي نسمع من بعض أعضائها المتحضرين المتنورين شكاوى مرة من عمى قادتها وتسلط أبنائهم وذويهم، وتخلف العدد الأكبر من أعضائها الفاعلين.

وإذا كان الأكراد يتطلعون إلى اليوم الذي يتحررون فيه من هذا التحالفات، فالإسلاميون لا يخفون شعورهم بالخوف من تحالف قادتهم مع الأكراد، ومن خطر هذا التحالف على قواعد أحزابهم في محافظات الوسط والجنوب.

ويقال الشيء ذاته عن قادة القائمة العراقية وعن كثيرين من ناخبيهم ممن كانوا يأملون في قلب الطاولة كلها على الأحزاب الشيعية والكردية معا، باسم العلمانية، وهم منها براء.

هذه هي المعادلة التي يقوم عليها نظام الحكم الجديد. أعداء متحالفون اضطرارا، في انتظار اللحظة المناسبة.

وضمن معطيات هذه المعادلة المملة التي أرسىت قواعدها أمريكا، بغبائها أو خبثها، وحلفاؤها العراقيون، بجشعهم وفسادهم، لم يعد هناك وجود لديمقراطية، حتى لو كانت ناقصة ً يُؤمل إصلاحُها في انتخابات قادمة. فمن أين تأتي الديمقراطية لدى هؤلاء الزعماء الذين تربوا على العمل السري في أحزاب المعارضة، فلم يتمرسوا إلا بمهارات التخفي والمراوغة والدس والوقيعة والتآمر والخداع.

فمن أول مؤتمرات تلك المعارضة كنا ندق نواقيس الخطر من احتمال سقوط نظام صدام، وقبض هذه الشلة على رقبة الوطن وشعبه المسكين.

كنا نقول، علنا ودون مواربة، في جميع ما نكتب ونذيع، ومن أول أيام غزو صدام للكويت، إن بقاء نظام صدام وهو ضعيف ومنزوع الأنياب والأظافر، أقل ضررا على العراقيين من هيمنة أشخاص فاسدين ومفسدين، متكالبين على المنافع والغنائم بقوة السلاح والمال الحرام، ونحن ما نزال خارج الوطن، وما يزال نظام صدام قائما ولا تبدو بارقة أمل في رحيله في المدى المنظور، متسترين بشعارات الوطنية والديمقراطية، وهم بعيدون جدا عنهما، بل هم أعداؤهما الأشداء.

وكنا نشرح أسباب خوفنا من هؤلاء على حكم العراق، بأن انتظار ولادة القوة الوطنية الديمقراطية المستقلة القادرة على إسقاط نظام صدام، حتى لو طال ذلك الانتظار، أرحم للعراق وللعراقيين من قيام أمريكا بإسقاطه وتسليم الوطن لحلفائها الشطار والحشاشين. فالنظام ساقط لامحالة. وحتى إذا طال عمره قليلا فهو محاصر ومنزوع الأنياب والأظافر. أما نظام هؤلاء المتسترين بالعدالة والوطنية وسلطة القانون فسيأخذ دهرا من أعمار العراقيين يزيد على ما أخذه نظام صدام بكثير. وسيذوق العراقيون على أيديهم أضعاف ما ذاقه على أيدي البعثيين من ظلم وفساد.

وكل من حضر اجتماعات المعارضة في لندن وفينا ونيويورك وصلاح الدين يفهم ما أقول.

فما يحدث اليوم هو نفسه الذي كان يحدث بالأمس. لم يتغير شيء مهم سوى خروج رئيس هذا الحزب ونهوض رئيس آخر غيرُه، أو انتقال هذا من هذا الائتلاف إلى ذاك. الشيء الجديد الذي طرأ على المعادلة هو تمكن صالح المطلق وطارق الهاشمي وأسامة النجيفي من انتزاع قيادة السنة من نصير الجادرجي وعدنان الباجه جي والشريف علي بن الحسين.

أما اللعبة فذاتها، وأما المقاييس فنفسُها لم تتغير. وصفقات المحاصصة التي كانت تتم في الغرف الخلفية من فنادق لندن ونيويورك ودمشق والرياض في مؤتمرات المعارضة، هي التي تتم اليوم في الغرف الخلفية لمبنى البرلمان.

وكذب كل دعاواهم عن الديمقراطية والدستور. فالديمقراطية والدستور لهما عندهم وظيفة واحدة لا غير، هي حفظ هذا التوازنات، وترسيخ هذه المقاسات. أما حين تحكم المصالح فليس لأحد منهم شغلٌ بديمقراطية ولا بدستور.

ومن لم يكن مثلـهم، وبنفس مواهبهم في التآمر والخداع والغدر، لا مكان له في ساحة الاقتسام. فالكبير يأكل الصغير. وهذا مثال على ذلك.

لم نجد سببا واحدا يقنعنا بعدالة اجتثاث البعثيين من قبل هيئة المساءلة والعدالة قبل انتخابات آذار الماضي. كما لم نجد سببا واحدا أيضا يقنعنا بعدالة استثناء صالح المطلق وظافر العاني وراسم العوادي من ذلك الاجتثاث.

فلا القرار الأول كان عاقلا وعادلا، ولا القرار الثاني كذلك. فالأول تم بدوافع ثأرية طائفية انتخابية محضة، والثاني يتم اليوم بصفقة سياسية فرضتها الضغوط المصلحية الخارجية، وظروف المحاصصة المصلحية الداخلية معا.

فإن كان قد ثبت لدى هيئة المساءلة، قبل انتخابات آذار الماضي، أن صالح المطلق ورفاقه بعثيون قياديون، وخطرون جدا على ديمقراطية العراق الجديد، فلماذا وبأي معيار وبأي مبرر يمكن إلغاء قرار اجتثاثهم، والسماح لا بإعادة الاعتبار إليهم وحسب بل بوضع المطلق ورفاقه في مناصب عليا حساسة جدا تمس أمن الوطن ومستقبل شعبه وبقاءه في الصميم؟

أما إذا كان قد تبين لقادة الأحزاب الرئيسية الممسكة برقبة العراق اليوم أن الذين اجثتهم هيئة المساءلة أبرياء من التهمة، وأنهم لم يكونوا قياديين بعثيين، ولم يكونوا ولن يكونوا خطرين على ديمقراطيتهم، وأن الواجب يقضي بالعفو عنهم، والاعتذار لهم، وتعويضهم بمناصب عليا حساسة عما أصابهم من أضرار، فينبغي، والحالة هذه، إقالة أحمد الجلبي وعلي اللامي وجميع نواب البرلمان السابق وأعضاء الوزارة السابقة وجميع القضاة الذين صادقوا أو (طنشوا) عن قرارات الاجتثاث تلك، واعتقالهم جميعا على الفور، ومحاكمتهم بتهمة الغش والفساد السياسي والعبث بأمن الوطن والمواطن، وبث الفرقة الطائفية والعنصرية، وإساءة استخدام السلطة، واستغلال مواقعهم الحكومية والقضائية للثأر من خصومهم السياسيين.

إن ما حدث في جلسة البرلمان (التصالحية) الأخيرة أشبه بألعاب تلاميذ المدارس الابتدائية الصغار. يرضى هذا ويغضب ذاك. يخرج من القاعة هؤلاء ويبقى أؤلئك، فيهرول الوسطاء لتبويس اللحى وترضية الغاضبين وإعادتهم إلى الملعب من جديد.
والأكثر إضحاكا في هذه التمثيلية المسلية أن أحمد الجلبي، نفسَه، وهو مهندس الاجتثاث وحاميه ومستغله الأول، كان أول من يجري خلف نواب العراقية الغاضبين لترضيتهم وإعادتهم إلى القاعة، دون حياء.

لا أمل في خروج الوطن من هذه الورطة ما دامت قوانين اللعبة نفسَها دون تغيير. ولا أمل في تغييرها في المدى المنظور. فلا الأكراد قادرون على تغيير تحالفاتهم وانتقاء أطراف أخرى يتحالفون معها غير التي تتوفر الآن. ولا أحزاب الدين السياسي هي الآخرى قادرة على فرض هيمنتها الواحدة، وطرد الكرد والسنة معا من الساحة. ولا صالح المطلق والهاشمي والنجيفي قادرون على اقتطاع حصص أكبر مما حصلوا عليه من كعكة المحاصصة.

وستبقى الدولة العراقية دولة نوري المالكي ومقتدى الصدر وصالح المطلق ومسعود البرزاني وعمارالحكيم، من الآن وإلى أن يشاء الله. إلا إذا حفظ الناخبون العراقيون الدرس، وأدركوا أنهم القوة الوحيدة الباقية القادرة على قلب الهذه الطاولة على أصحابها، وإقامة موازنة جديدة عادلة وحقيقية، وإعادة الوطن إلى أهله سالما معافى، كما كان، وكما ينبغي أن يكون.

في الانتخابات المقبلة سوف يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فنخرج من هذه الطينة الفاسدة، أحرارا كما ولدتنا أمهاتنا، أو نظل، وإلى أبد الآبدين، نبكي دماً على وطن ضاع بين أقدام اللاعبين المخادعين والمزورين الكبار.