ومن منا لا يعرف الفنان و المطرب العراقي الأصيل و الجميل و البصري حتى النخاع صاحب ( البلم العشاري ) و الذي حمل راية الحرية و الإنتصار للشعب العراقي ورفض الفاشية و الجلادين و تحمل ما تحمل من أهوال و معاناة بصمت، وتشرد كالطير المهاجر وحمل معاناته الشخصية وتجاوزها ليطرح معاناة شعبه في العالم، إنه الفنان العراقي البصري الأصيل الجميل فالح حسن بريك الشهير ب ( فؤاد سالم ) الذي ظهر و تألق في أواخر ستينيات القرن الماضي وكان صوتا شجيا جميلا و مبدعا بشر بالفرحة و بالمستقبل المشرق قبل أن تصادر الفاشية البعثية كل تلك الأحلام الشابة و الطموحات الندية لتطرح نموذجها النازي المتخلف في التمجيد بالأصنام البشرية و بالقادة المهزومين و الهزيلين، ولتقمع الفن الأصيل المرتبط بالناس و معاناتهم و العاشق لتربة الوطن حتى الذويان. فؤاد سالم الذي قدم لخزانة الموسيقى و الطرب و الفن في العراق أبدع الأعمال يعيش اليوم وضعا مأساويا مزريا بعد أن هاجمته الأمراض ودار عليه الزمن الجائر الذي فتح بوابة العراق أو مغارة علاء الدين لجمهرة لا تحصى من اللصوص و الشطار و العيارين و الذباب الحزبي الطائفي الجديد الذي نهش بأوصال الوطن بعد أن وصلت للسلطة هناك ثلة من الفاشلين و الجهلاء و( بتوع الثلاث ورقات )، لتهشم الوطن بالكامل و لتحيله لخراب ينعق في أرجائه بوق التخلف و العشائرية المريضة المتخلفة و الطائفية النتنة. لقد كان مصير المبدعين في العراق ظلاميا و مأساويا للأسف على الدوام، فهاهو رب المفردات الشعرية وشاعر العرب الأكبر و آخر بقايا الشعر العباسي المرحوم محمد مهدي الجواهري يرقد في مقبرة ( الغرباء ) في الشام! و كذلك هو حال الشاعر المرحوم الدكتور مصطفى جمال الدين، و لا يستثنى من ذلك المبدع الراحل عبد الوهاب البياتي، فيما كانت معاناة الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي عظيمة قبل وفاته عام 1944.. و كذلك كان حال الشاعر العظيم بدر شاكر السياب الذي مات مفلسا في الكويت عام 1964 وهو الذي حقق الإنقلاب الأكبر في الشعر العربي الحديث! وهنالك أجيال واسعة جدا من المبدعين العراقيين تلاشوا في قطار الغربة و التشرد و الضياع و المعاناة و النسيان و الجحود، الفنان فؤاد سالم بطل أوبريت ( بيادر خير ) و صاحب الأنشودة الوطنية الرائعة ( ياعشقنا،، وكاعنا فضة وذهب.. و إشحلاة العمر لو ضاع بعمرها ) وصاحب يابو بلم عشاري و مبدع أنشودة السياب الكبير( غريب على الخليج ) يعيش اليوم أسوأ أوضاع يمكن أن يعيشها فنان في حجمه و مكانته الرائعة إبداعيا ووطنيا و نضاليا. لقد ضاق العراق بكل إمكانياته عن إستيعاب معاناة فنان حمل لقب ( فنان الشعب ) بجدارة و إستحقاق وكان ضمير العراقيين في مرحلة الصراع ضد البعث الفاشي وكان صاحب الأنشودة الوطنية الخالدة ( بيت العراقيين هو بيتنا.. إشما غبنا عنه سنين يبقى بيتنا )! لم يجد هذا الفنان بيتا يستوعبه في العراق ! بينما قبائل ( الهكسوس ) التي إستوطنته و أحتلت ( منطقته الخضراء / السوداء ) ترتع و تسرح و تمرح بالملايين المشفوطة من الحصة التحاصصية، وكذلك أهل البرلمان العتيد يبذخون بإمتيازاتهم الخيالية وجلهم لم يقدموا شيئا لقضية الإنسان العراقي و لم يتحملوا معاناة الغربة و التشرد وحمل راية الكفاح و الصراع ضد الفاشية البعثية التي لم يسقطها سوى أبناء العم سام و ليس أهل العمائم الوافدين و لا الأفندية المنافقين الذين كانوا يلبسون ( الزيتوني ) ثم حولوا البندقية للكتف الآخر في مهرجان النفاق العراقي الكبير و المتأصل ليلطموا في المأتم العراقي الجديد!! فؤاد سالم ليس مجرد مغن أو مطرب عادي إنه مناضل كبير وصلب لم يخضع للضغوط ولا لإغراءات سلطة البعث و لم يشارك في مهرجان الردح البعثي و لم ينشد أو يؤدي أو يلحن الأناشيد الفاشية أو قصائد النفاق السخيفة بحق القائد الهالك الذي كان!! بل تغنى بالشعب وغنى للشعب و الوطن وحمل راية المقاومة الإبداعية أينما حل و أرتحل، لقد أفاض بفنه حتى على دول الجوار وقطع شوطا فنيا مبدعا في الكويت التي أبدع فيها أروع أغنياته ( محلى هالعيون ) و ( هلي سود العقل بيض الدشاديش ) و ( لالا ياأم راشد عاليات سطوحكم و العالي الله ).. وغيرها من الإبداعات الفنية الجميلة و الراقية... تصوروا وزارة الثقافة العراقية التي يشرف على نشاطها أحد الرفاق في حزب الدعوة وهو الوكيل الشاعر جابر الجابري ( أبو مدين الموسوي ) لم تخصص لفناننا الكبير المريض وهو في منفاه السوري سوى مبلغ تافه ( 80 ) دولارا ينفقها الوكيل في مأدبة إفطار صباحية سريعة!! هل بهذه الطريقة وهذا الشح يكرم الفنان العراقي؟ فؤاد سالم إبن مدينة البصرة الأصيل و سليل أحد عوائلها المعروفة يعيش العوز فيما المتخلفون الطارئون يتحكمون بالمليارات!! إنها المهزلة بأبشع صورها، ولا غرابة في حالة الإندثار العراقية التي تهدد بزوال العراق الذي نعرفه من الخريطة و تحوله لمجموعة من الكانتونات الطائفية البدائية المتخلفة كما يريد القادة الجدد. فبتقدير و إحترام الفنانين و المبدعين تقاس عظمة الأمم و الشعوب.. أما في الحالة العراقية فإن من يكرم للأسف هم اللصوص و القتلة و الدجالين و النصابين وتلك الحالة من علامات الفشل القيمي الفظيعة التي تؤسس لمستقبل مجهولز لا نتلمس الخير أبدا من حكومة عاجزة و من دولة مشتتة، و اقترح تنظيم حملة تبرعات شعبية لمساندة فنان الشعب فؤاد سالم الذي ضحى بالغالي و النفيس في مقاتلة الفاشية بالصوت و الكلمة و الموقف... فهل تجد دعوتنا إستجابة؟ أم أننا نراهن على الهواء.. وبالتالي و كما يقول الشاعر.. لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنمز فأحذر الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم.
يبدو أن قسوة العراق على مبدعيه و أبنائه الحقيقيين هي ذات سمات تاريخية متوارثة لا فكاك منها أبدا مهما كانت هوية وطبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة في ذلك البلد المنكوب بأبنائه و حكامه و تاريخه الدموي الحافل، فهذا العراق كان رحما أنجب العديد من العظماء في مجال الفكر و الأدب و السياسة و الفنون، ومع ذلك فقد كان بخيلا في عطائه لهم و كان شحيحا في تكريمه إياهم، وكان قاسيا حتى الموت في جفوته و غلظته و تنكره لجهود و إبداعات أبنائه الذين حملوا معاناة شعبه كالصلبان يجرونها في المنافي و الديار الثلجية البعيدة...
- آخر تحديث :
التعليقات