بعد اكثر من شهرين مضنيين تخللتهما الكثير من الجولات التي خاضها فريق التفاوض الكردستاني بقيادة السياسي الكردي المعروف روز نوري شاويس، اثر اعلان مبادرة الرئيس مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان التي تضمنت عدة بنود، في مقدمتها تقاسم السلطات بشكل يرضي الفرقاء ويحدث توازنا نوعيا يستدعي تنازلات وطنية من اجل مصالح البلاد العليا بما يحفظ حجوم الكتل ونتائجها الانتخابية، من اجل ثابت مهم دارت معظم جولات المباحثات حوله وهو المواطن ومشاكله الاساسية، سواء ما يتعلق منها بالخدمات الرئيسية او دوامة العنف والسلم الاجتماعي، او تلك التي انتجها التباطؤ والتسويف وتعدد التأويل والتفسير في قوانين الاجتثاث، وما اعقبها من مسائلة ومصالحة وفي ما يتعلق بمواد الدستور والاختلاف في تفسيراتها أو تعديلاتها، وتطبيقات المواد الخاصة بحل مشاكل المناطق المتنازع عليها بين الاقليم والحكومة الاتحادية، وفي مقدمة كل ذلك اعادة وبناء الثقة بين المتنافسين والشركاء في السلطة منذ سقوط النظام السابق وحتى يومنا هذا.

لقد بذل فريق التفاوض الكردستاني والذي ضم خيرة الخبراء والمختصين يتقدمهم السياسي المخضرم محمود عثمان والنائب خالد شواني ورفاقهم الآخرين من بقية اعضاء الفريق، جهودا في غاية الاهمية والجدية بحرص كبير وبمسافة واحدة من كل الأطراف على أن تكون خريطة الطريق عراقية خالصة، تنبع من مصالح البلاد العليا وتصب في خدمة المواطن وحاجاته الاساسية في الامن والسلم الاجتماعيين، وما يتعلق بحركة وتفاصيل حياته اليومية ومستقبله بعيدا عن الفئوية او المناطقية او العرقية والدينية، بما يؤسس ويبلور مفهوما مشتركا للمواطنة العراقية الخالصة.

لقد تميز الخطاب الكردستاني من خلال مبادرة الرئيس بارزاني، او من خلال الورقة التي تضمنت 19 فقرة كردستانية وعراقية، بعدم شخصنة المسؤوليات وعلى رأسها من سيكون رئيسا لحكومة العراق، بقدر التأكيد على التوافق بين الجميع في هذه المرحلة، وعلى وضع اسس عملية ونقاط مشتركة وثوابت وطنية في اختيار وتأسيس حكومة تخدم مصالح البلاد العليا، وتقترب من نبض المواطن والاهالي في ما يتعلق بهواجسهم ومعاناتهم الامنية والمعيشية والحضارية، بصرف النظر عن اسم او حزب الشخص الذي سيتولى منصب الرئيس، الا ما يتعلق بتاريخه الوطني والنضالي وتفانيه في خدمة العراق الجديد ودستوره وتوجهاته.

ان التئام كافة الكتل والاحزاب العراقية حول مائدة الرئيس بارزاني في اربيل وما تلاها في بغداد، مثلت بعد انقطاع طويل بين المتنافسين تجاوزا للحاجز النفسي المتشنج الذي باعد بينهم وعقد كثير من الأمور في غياب التحاور المباشر، بل وسمح لكثير من الأطراف الخارجية وربما الداخلية التي لا يهمها مصالح البلاد العليا بالتدخل السلبي وزيادة فجوات الخلاف، لكن اجتماع اربيل ومن ثم بغداد الذي نجح في كسر ذلك الحاجز النفسي ادى لاحقا الى اتفاق مبادئ وإطارات توافقية ادت لاحقا الى انعقاد جلسة مجلس النواب ومن ثم توزيع المسؤوليات الرئاسية للبرلمان والدولة.

لقد كانت جلسة مجلس النواب وما جرى فيها ثمرة جيدة لتلك الجهود التي بذلت خلال الاشهر الماضية، وهي من المؤمل أن تنجز حكومة شراكة وطنية متوازنة قوية تمثل ارادة الاهالي، وتتنافس من اجل الوطن بمنظور جماعي لا من اجل قيادة كتلة او حزب، بل من اجل تنافس الجميع وبنفس ذلك الحماس على المناصب من اجل تقديم الخدمات والاقتراب من مشاعر وحاجيات المواطن في المدن والقرى والارياف، وربما تكون هذه الخطوة الاولى مشجعة لاستكمال تأسيس عهد جديد، رغم ما يشوب الساحة من تناقضات حادة بين الفرقاء بسبب ضعف الثقة وانعدامها في كثير من الأحيان، وما ينتج من صعوبات ستواجه ذات الفريق المفاوض الذي يتابع نجاحات الخطوة الأولى.

واذا كانت هذه الخطوة قد سجلت خيارا عراقيا لحل الأزمات فان العملية السياسية ما تزال تحت مرمى دول الجوار وأجنداتها سلبا وايجابا، وما زال خطر التأثير بالغا في توجيه سفينة الفرقاء كما يشتهي السفان الخارجي، وما لم تتعاون كل الاطراف بجدية وبروحية فريق واحد مع مبادئ مبادرة الرئيس بارزاني، فان الأمور ستبقى ضمن هكذا اطر حتى ينجح السفان العراقي في توجيه سفينته الى شواطئ الأمان، أو يحصل ما لا نتمناه جميعا في تدخل جهات خارجية اخرى لفرض اجندات ومشاريع ربما لا تكون الارض العراقية خصبة لنموها، مما قد تؤدي الى العودة لا الى المربع الاول بل الى ما قبل ذلك بصيغة معدلة ومزركشة وبنفس المعاني والسلوك!؟