كم من رمزٍ صُنع ليصبح أيقونة خالدة، وكم من هالةٍ مضيئة أُلبست لشخصيات لا تستحق، حتى غطت أوهامها على الحقيقة وأصبحت أكثر واقعية من الواقع نفسه. تُصنع الرموز المضللة لتشكل الوعي الجماعي، فتُبنى على قصص مختلقة أو تُضخم إنجازات عادية حتى يصبح الفرد فكرة، والفكرة وهماً متجذراً في العقول البسيطة. إن هذه العملية ليست جديدة؛ فصناعة الرموز الزائفة ونسج الأساطير حولها ظاهرة تمتد عبر العصور، من الشرق إلى الغرب، ومن الماضي إلى الحاضر، لتكشف عن طبيعة الإنسان في بحثه المستمر عن الأبطال.

في التاريخ القديم، نجد أن الإسكندر الأكبر قد تحول من قائد عسكري إلى شبه إله في الأساطير الإغريقية. لقد صُوّر على أنه شخصية لا تُهزم، مع أنه رغم عبقريته العسكرية لم يكن ذلك المخلص المنقذ كما وصفته الروايات اللاحقة. ساهمت الأساطير في تعزيز صورته كرمز خالد، ليصبح أحد أعظم القادة في التاريخ. ومع ذلك، فإن تحليل إنجازاته بموضوعية يظهر أن خلف هذا البريق المتألق تكمن شخصية معقدة مليئة بالتناقضات.

وعلى الجانب الآخر من العالم، نجد مثالاً في تشي جيفارا، الذي رُفع إلى مصاف الأبطال الثوريين في القرن العشرين. جيفارا، الذي تحول إلى رمز للنضال ضد الظلم، لم يكن بطلاً نقياً كما تُظهر صوره المتداولة على القمصان والملصقات. تشير الوقائع التاريخية إلى تصرفات جدلية وممارسات مثيرة للجدل، لكن هالة الثورة التي أُحيطت به جعلت من شخصيته رمزاً ملهماً للشباب الثائر في كل مكان، ما أدى إلى تغليب صورة البطل على الواقع الفعلي.

لا يقتصر الأمر على الشخصيات التاريخية، بل يمتد إلى عصرنا الحديث حيث يتم تضخيم شخصيات عامة أو قادة سياسيين بشكل مبالغ فيه. خذ مثلاً تأثير الدعاية الإعلامية في الترويج لبعض الشخصيات السياسية وكأنها تمتلك حلولاً لكل مشاكل البشرية، بينما تكون الحقيقة على النقيض تماماً. يُروَّج لهم على أنهم رجال إنقاذ في أوقات الأزمات، فتُبنى حولهم هالة زائفة تساعدهم في الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، ما يساهم في تضليل الجماهير وخلق تصورات لا تستند إلى حقائق.

في سياق الزعماء الذين تحولوا إلى رموز خالدة، يمكن النظر إلى أمثلة مثل صدام حسين ومعمر القذافي وجمال عبد الناصر، وكيف تم نسج الأساطير حولهم لتغطي على تعقيدات الواقع. صدام حسين، الذي أُحاط بهالة القائد الصارم والمقاوم للإمبريالية، كان في الواقع يجسد نظاماً قمعياً استبدادياً تسبب في مآسٍ لشعبه، لكن أسطورة القائد البطل استمرت، خاصة في عقول من رأوا فيه رمزاً للصمود العربي.

إقرأ أيضاً: أسرار الفاتيكان: بين صرح الإيمان ودهاليز المال

أما القذافي، فقد تحول من قائد الثورة إلى زعيم خيالي في كتابه الأخضر وأفكاره غير التقليدية. استطاع أن يخلق لنفسه هالة خاصة به جعلت من شخصيته لغزاً معقداً يجمع بين العبثية والسياسة. ورغم انهيار نظامه، ظلت شخصيته تطفو في المخيال الشعبي وكأنه قائد خارق.

وجمال عبد الناصر، الذي يُعتبر بطلاً قومياً للكثيرين، بنى شعبيته على خطابات الوحدة والكرامة العربية. لكنه أيضاً كان جزءاً من أحداث مليئة بالتناقضات، حيث أدت سياساته إلى نتائج مختلطة وأحياناً كارثية، لكن هالة الزعيم القومي ما زالت مستمرة.

وفي المقابل، نجد غاندي ومانديلا، اللذين تحولا إلى رموز للنضال السلمي والحرية. ورغم أن إنجازاتهما كانت عظيمة، إلا أن التقديس الذي أحاط بهما أحياناً يغفل التحديات الشخصية والسياسية التي واجهاها، ويخفي التعقيدات التي صاحبت مسيرتهما.

إقرأ أيضاً: هل نقترب من مرحلة توجيه العقول؟

إنَّ هذه الشخصيات، على اختلاف ظروفها وإنجازاتها، تبرز كأمثلة على كيفية بناء الوهم وصناعة الخلود الزائف.

في الثقافة الشعبية أيضاً، نجد أمثلة مشابهة. شخصيات مثل مارلين مونرو تُقدَّم للعالم كرموز للجمال والكمال، مع تجاهل معاناتها الشخصية وصراعها مع الاكتئاب والإدمان. وهنا تصبح الشخصية ضحية لصورة جرى تضخيمها وإخفاء واقعها خلف ستار الوهج والشهرة.

إن صناعة الرموز المضللة ليست سوى انعكاس لرغبة الإنسان في الإيمان بأبطال خياليين. وهذه الصناعة تُستغل من قبل الأنظمة السياسية، المؤسسات الإعلامية، وحتى الجمهور ذاته الذي يسعى إلى تصديق الأساطير، بدلاً من مواجهة الحقائق المعقدة والمليئة بالتناقضات. الرموز المزيفة تعزز الشعور بالاستقرار الاجتماعي والنفسي، وتجعل الناس أسرى لمعتقدات لا تعكس إلا صورة زائفة للعظمة.

إقرأ أيضاً: أراضٍ خارج السيادة… لغز الجغرافيا والسياسة

ولكن ما الثمن؟ التضليل قد يؤدي إلى خيبة الأمل، وإلى تشويه التاريخ الحقيقي. عندما ندرك أن الرموز التي صنعناها ليست أكثر من وهم تم تجميله، يمكن أن تتحطم تلك الصورة فجأة، تاركة وراءها فراغاً يصعب ملؤه.

من المهم أن نسأل أنفسنا: كيف يمكننا التمييز بين الحقيقة والوهم؟ وكيف نتجنب الوقوع في فخ الرموز الزائفة التي تُصنع بإتقان لتغطي على الواقع؟

كما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "المعجزات لا تحدث ضد الطبيعة، بل ضد ما نعرفه عن الطبيعة". الرموز المضللة تعمل بنفس الطريقة، فهي لا تخالف الواقع، بل تتلاعب بتصوراتنا عنه.