الحكم على الآخرين، هذه الممارسة المتغلغلة في نسيج الحياة البشرية، ليست مجرد سلوك اجتماعي عابر، بل ظاهرة تعكس أعماق النفس البشرية وتتناقض مع القيم العليا التي ينبغي أن تحكم العلاقات الإنسانية. لماذا نحكم؟ وما الذي يمنحنا الحق في ذلك؟ هل هو انعكاس لضعفنا الداخلي أم جزء من الصراع الأزلي بين الفرد والمجتمع؟
يقول الفيلسوف الألماني إريك فروم: "كل إنسان هو شيء جديد تمامًا في هذا العالم، وليس عليه تكرار الماضي، بل عليه أن يجد شكله الخاص ويعبر عن شخصيته الفريدة". يذكرنا فروم بأن كل إنسان يسلك طريقه الخاص في الحياة، محاولًا تحقيق ذاته ضمن ظروف وتجارب لا تتشابه أبدًا مع الآخرين. لكن المجتمع، بتوقعاته ومعاييره، يتخذ من الحكم أداة لفرض الوحدة والانسجام على حساب التنوع، مما يخلق وهمًا بأن لكل الأفراد نفس المصير.
هذه الفكرة تتجلى في أحداث رواية "قتل طائر الزقزوق"، حيث تظهر السيدة "دوبوا" كرمز للإنسانية المكافحة. رغم حكم الآخرين عليها، كانت تموت ببطء بسبب السرطان، ولتخفيف الألم كانت مدمنة على المورفين. كانت متعبة من تناول تلك الحبوب وتريد الموت لتتخلص من الألم. بالمقابل، كان "جيم" دائمًا يعتقد أنها امرأة سيئة، لكن في الواقع كانت تمر بالكثير وتخفي الكثير.
يقول جون بول سارتر: "أنت تصبح ما يراه الآخرون فيك". هذا التأمل العميق يبرز مشكلة الحكم من زاوية الوجودية. إنَّ الشخص الذي يُحكم عليه بناءً على مظهره أو أخطائه الماضية يصبح سجينًا لصورة فرضها الآخرون عليه، فماذا لو كانت هذه الصورة ناقصة أو خاطئة؟ هنا يكمن التناقض؛ نحن نعلم أن الجميع يخطئ، لكننا نستمر في تقييم الآخرين كما لو كانوا مطالبين بالكمال.
الحكم على من ترتدي ملابس ضيقة أو ذلك الذي يغطي جسده بالوشوم هو حكم على قشرة خارجية، وليس على الجوهر. يكشف ذلك عن نزعة إنسانية للإفراط في تفسير الظاهر، متجاهلين حقيقة أدركها أفلاطون قبل قرون، أن "الجمال يكمن في أعماق الروح".
الحكم ليس مجرد تصرف سطحي، بل قد يكون سلاحًا يقتل النفس ببطء، حيث إن ارتباط الحكم بالتنمر قد يؤدي إلى الانتحار، ويظهر الجانب المظلم لهذه العادة. يتردد صدى هذا الألم في كلمات الكاتب الفرنسي ألبير كامو عندما قال: "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه". يحاول الفرد أن يهرب من نفسه خوفًا من أن تكون هذه النفس هدفًا للحكم.
إقرأ أيضاً: ما بين الامتنان والجحود
في رواية "قتل طائر الزقزوق" نجد أن "بو رادلي"، الذي كان ضحية للأحكام المسبقة، يمثل الخير الخفي وراء الأبواب المغلقة. يظهر لنا أن الحقيقة غالبًا ما تكون أبعد مما يبدو على السطح. فكم من "بو رادلي" يعيش بيننا، محجوبًا خلف ستائر من الافتراضات الزائفة؟
الحكم على الآخرين، كما يراه الفيلسوف رالف والدو إمرسون: "هو اعتراف ضمني بنقص فيك". عندما نحكم، نحن لا نصف الآخرين، بل نعبر عن مخاوفنا وعيوبنا الداخلية. يصبح الحكم وسيلة لإخفاء عيوبنا بالإشارة إلى أخطاء الآخرين، لكن الحقيقة هي أن هذا السلوك لا يزيدنا إلا بعدًا عن إدراك ذواتنا.
إذا نظرنا إلى الموقف من منظور ديني أو أخلاقي، نجد أن الله وحده هو الذي يملك الحق في الحكم، لأنه الوحيد الذي يرى القلوب ويعرف الحكايات كاملة. أما نحن، فمحدودية إدراكنا تجعل أحكامنا قاصرة وخاطئة.
إقرأ أيضاً: حياتنا السردية
لتجاوز هذه الظاهرة، علينا أن نتبنى فضيلة التعاطف، أن نفهم أن لكل إنسان قصة لم تُروَ ومعاناة لم تُشاهد. إذا أردنا عالمًا أقل قسوة وأكثر تقبلًا، يجب أن نبدأ بأنفسنا.
الحكم على الآخرين ليس مجرد خطأ اجتماعي، بل هو افتقار للإنسانية. ليس فقط لأنه يضر الآخرين، ولكن لأنه يحد من قدرتنا على النمو والتعلم. "لا تحكم على خطوات شخص إذا لم ترتدِ حذاءه"، حكمة تعبر عن ضرورة أن نعيش التجربة لنفهمها. إن في ذلك دعوة لاستبدال الأحكام بالتفهم، والغضب بالرحمة، والنقد بالمحبة.
الحكم لا يحدد الآخر، بل يعبر عن حقيقة من نحن. لذا فلنحرر أنفسنا من الحكم ولننظر إلى الناس بعيون رحمة، لعلنا نرى فيهم ما يغني أرواحنا.
التعليقات