لا يخفى أن المخاطر التي تتعرض لها الاقلية المسيحية في العراق تشكل خطرا كبيرا على الوجود القومي والسكاني والإنساني والوطني لهذه المكونات العريقة التي عاشت أرض وادي الرافدين من آشوريين وسريان وكلدان إضافة إلى الأرمن الذين سجلوا حضورا ليس بالقديم نتيجة تشتتهم في بلدان كثيرة وتعرضهم إلى إبادة جماعية أبان عهد حكم سلاطين العثمانيين.

هذه المكونات المسيحية بدأت تتعرض الى هجمة شرسة تستهدف ازالة وجودها في بغداد وفي بعض المحافظات بغية دفعها الى الرحيل وترك العراق، ولم تجد هذه المجموعات العراقية غير ارض اقليم كردستان أمانا وسلاما لهم، وبدأت نزوحهم باعداد كبيرة الى محافظات الاقليم.

وبالرغم أن الوجود القومي للمكون المسيحي يسجل نسبة سكانية قليلة مقارنة بالنسبة السكانية الكبيرة للقوميتين العربية والكوردية في العراق والتي تنحصر بين 2-4 % من النسبة السكانية الكلية للبلاد، ألا أن الواقع السياسي الذي مر به العراق بالعهدين الملكي والجمهوري، دفع الى نسبة كبيرة منهم للهجرة الى الخارج نتيجة السياسات القمعية والاستبدادية التي اتسمت بعنصرية شديدة ضد الثقافات والخصوصيات والتقاليد القومية على المستويين الجماعي والفردي في عهود الأنظمة السابقة، للحصول على الحرية والأمان والسلام لضمان الحياة بجوانبها الإنسانية بعيدة عن التعاسة والآلام والعنف والاضطهاد.

ولكن الملاحظ ان السنوات التي تلت عام السقوط في الفين وثلاثة، اتسمت بهجمة وحشية شرسة على المكون المسيحي في بغداد والموصل والبصرة، وعلى المكون الصابئي في بعض مناطق العراق، ويبدو ان استهدافهم بهذه الوحشية مثل ما حصل في كنيسة quot;سيدة النجاةquot;، تمثل خطة عمل وبرنامج مرسوم له بدقة منذ سنوات من قبل جهات ارهابية لها ارتباطات داخلية وخارجية تبغي الى افراغ العراق من مكوناتها التعددية وتصفية هذه الاقليات بغاية لا تفسر الا بتفريغ منطقة سكناهم من وجودهم وحصرها بمكون واحد او مكونين من السنة والشيعة، والغريب ان تصفية هذا المكون تجري في وضح النهار امام الحكومة وفي ظل العملية السياسية التي بدأ بالإرساء مع إقرار دستور دائم للعراق.

ورغم ان واقع العنف الطائفي والإرهاب الذي سيطر على الساحة العراقية قد قلل من حجم الإنجازات السياسية المتحققة في الواقع العراقي، وبدد إلى حين آمال خلق عراق متقدم خال من أي نوع من أنواع العنف والاضطهاد السياسي والمذهبي والطائفي، الا ان رئيس الحكومة نوري المالكي تمكن من القضاء على العنف الطائفي خاصة في بغداد الذي كاد في حينه ان يسبب حربا أهلية بين السنة والشيعة، ولكن بالرغم من تحقيق هذا النجاح الامني الا انه برز إلى الوجود العنف الارهابي الموجه الى المسيحيين بدرجة كبيرة من القسوة خاصة في الموصل وبغداد، وقد سبب رحيل وهجرة عائلات كثيرة من موطنها إلى إقليم كوردستان وإلى الدول الأوربية والدول المجاورة مثل الأردن وسوريا وتركيا.

وابرز ما تميز به هذا العنف والإرهاب الموجه إلى المسيحيين من أعمال تفجير وقتل كان تفجير الكنائس وقتل رجال الدين وتهديد الأفراد والعائلات بالقتل أو اعتناق دين آخر بالكره والقوة والترهيب، وهذا ما سبب توجه الكثير من المسيحيين من بغداد والبصرة والموصل وكركوك ومناطق أخرى إلى الرحيل والتوجه إما إلى المنطقة الكوردية الآمنة لحمايتهم أو الرحيل إلى الخارج واختيار المنفى بديلا عن هذا الوضع المتأزم تجاههم في العراق.

ولغرض توفير الحماية لهذا المكون الذي يعيش كأقلية من آشوريين وسريان وكلدان وأرمن، اقترحنا في مقال سابق في quot;ايلافquot; إقامة إقليم للمسيحيين محددة بالمنطقة الواقعة بين القسم الشرقي لمحافظة الموصل ومناطق الهلال المسيحي الواقعة في منطقة التقاء المحافظات أربيل والموصل ودهوك لأنها تحتضن المدن والقصبات والقرى المسيحية وتقطن فيها مكون سكاني متداخل من الآشوريين والكلدان والسريان، وفيها دير ودور عبادة لهم من زمن قديم. ولكن يبدو ان تنفيذ فكرة اقامة اقليم مسيحي تعاني من صعوبات كبيرة، لهذا ارتأينا طرح نفس الفكرة لضرورات آنية باطار جديد وهو اقامة ملاذ آمن في مثلث الهلال المسيحي ومنحهم حكما ذاتيا للاشراف وادارة امورهم وشؤونهم من قبل ممثلين منتخبين لضمان السلام والأمان لهم ولغرض جمعهم في منطقة آمنة بعيدة عن الارهاب والعنف، ولا شك أن إقامة مثل هذه الادارة الحكومية الذاتية ستكون لها منافع عديدة ومن جملة المنافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي:
أولا: توفير ملاذ آمن لمجموعة سكانية فعالة من مكونات المجتمع العراقي بدأت تتعرض الى مخطط ارهابي لازالة وجودها.
ثانيا: ضمان منطقة آمنة هي بالأساس موطن للطوائف المسيحية يمكن تسميته بالهلال المسيحي الواقع بين الموصل واربيل ودهوك، لتأمين أجواء حياة طبيعية متسمة بالأمن والاستقرار لهذه الاقلية التي تعاني من مظاهر العنف الديني الموجه لهابالقتل والإرهاب، للحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم وثقافتهم وخصوصياتهم القومية والدينية.
ثالثا: دعم الديمقراطية العراقية وضمان حقوق سكان الوحدات الإدارية في ظل حكومة محلية، وإيجاد التوازن والتوافق بين المصلحة العامة ومصلحة المجموعات السكانية للعمل على تلبية الحاجات الأساسية للسكان وتقديم أفضل الخدمات لهم، وخلق التوازن بين الدولة والوحدات الإدارية من خلال تقسيم الحقوق والواجبات والصلاحيات فيما بينها وتحديد نمط العلاقة بين الأطراف المعنية.
رابعا: المساهمة الفعالة في إزالة بؤر التوتر التي تحيط بالاقلية المسيحية لأسباب متعلقة بالدين والمذهب أو أسباب أخرى.
خامسا: المشاركة الفعلية في حل المشاكل والمعضلات والأزمات الداخلية التي تواجه هذه الأقلية دون تعقيد أو خلق أزمة للمشاكل متلاحقة لا يمكن السيطرة عليها، والمساندة الحقيقية في تلبية الحاجات الأمنية للمسيحيين وفق أفضلية ميدانية، والعمل على استمرارية وديمومة وجودهم كمكون عراقي.
سادسا: تنشيط هذه الاقلية المهمشة لأسباب سياسية ودينية وتنشيطها في ظل ادارة حكومية ذاتية وضمان مشاركتها في العملية السياسية بفعالية والمشاركة في ادارة شؤونها ووضع السياسات العامة لها واتخاذ القرارات في تحديد الاستراتيجيات والأهداف العامة لحمايتهم من خلال اقامة تشكيل قوة عسكرية وأمنية خاصة بهم.

استنادا إلى هذا الطرح السياسي نجد ضرورة إقامة الملاذ الآمن بحكم ذاتي للأقلية المسيحية في المنطقة المذكورة، وتبرز هذه الضرورة عندما نعلم أن الدستور ضامن بتحقيق هذا الامر وهو يسمح باقامة إدارة للمجموعات السكانية على مستوى محافظة او اقليم، طبقا للنهج الاداري الجديد للدولة والنظام الديمقراطي الذي أصبح الضامن الرئيسي لإرساء المؤسسات الشرعية للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في العراق الجديد لضمان السلام والأمان والاستقرار وتحقيق التنمية والتطور لمكونات لمجتمع العراقي.

انطلاقا من هذه الرؤية، فإن الخارطة المطروحة لإقامة الملاذ الآمن للمسيحيين والقيام بالعمل الجاد لتبنيه وتنفيذه يشكل الفرصة المناسبة للأطراف السياسية في العراق وفي إقليم كوردستان لتجاوز الواقع المتردي للمكون المسيحي الذي فرض عليه أجواء من الاضطهاد والقمع والقتل والارهاب، لضمان الأمان والاستقرار لهذه المجموعة السكانية الفعالة من العراقيين وتأمين الحياة لهم في الحاضر والمستقبل.

[email protected]