تروى الأسطورة انه وقبل وصول الإنسان الأول للأرض كانت الحيوانات تعيش بهناء وسلام وأمان وكانت تتكلم فيما بينها وتتحاور وتتناقش بكل جرأه وحرية وشفافية وكانت تعيش حاله من الرغد الشديد وفجأة انتشرت شائعة مفادها إن هناك من نزل من السماء وانه يسمى (إنسان) وان هذا المخلوق سيستعمر الأرض ويستبيح كل ما فيها من نباتات وحيوانات وسيكون خطره الأول موجها ضد الحيوانات فسيقتل هذه ويأكل لحم تلك ويركب هذه ويستخدم أولئك للحرب وتلك للسباق او للتسلية بل وسيصل به الأمر الى استخدام جلود بعض الحيوانات لصنع (جزمه) يمشى بها على الأراضي الشائكة وحتى القذرة وتطلب الأمر عقد اجتماع عاجل وطلب إن يكون شاملا واستراتيجيا وبحضور عدد من الأكاديميين المعروفين وكان جدول الإعمال مكثفا ومنصبا على كيفية الوصول لحل لهذه الأزمة الخطيرة ومواجهتها والتي تهدد وجود الحيوانات وربما تقضى على تميزها للأبد وبعد مناقشات بائسة وغير مجدية (الأغلب أنها حيوانات كانت تعيش في الأراضي العربية ) تم فيها تقديم العديد مــن الخطط المكتوبة (معظمها غير واقعية وغير قابلة للتنفيذ ) لمواجهه هذا الخطر المحدق (طبعا لم ينفذ منها أي خطه).

وتشير الأسطورة الى محاوله الضب ndash; في الجلسة الختامية - تقديم اقتراح نافع وواقعي ولكنه ولأنه - يتيم وصغير الحجم وليس له قبيلة تحميه- وكان من حيث المبدأ ضد القبلية او الدخول في أية تحالفات او محاور مع أي حيوانات أخرى - فقد تم إسكاته وتجاهله فانسحب بهدوء وكتم غيظه وتعجب من عدم إحساس العقلاء بالخطر المحدق - رغم انه كان لديه خطة للحل وإصرار وهمة تقارع الجبال لتنفيذ مشروعه مهما كلفه الأمر من ثمن - ولكنه كان يتمنى إن يكون العمل مؤسسيا وليس قائما على مجرد مبادرة فردية مرتبطة بضب.

عاني الضب حالة نفسية لأيام معدودة نتيجة الإحباط الذي صاحبه بسبب وأد - مشروعة الوقائي ndash; الا انه اختار التحرك الايجابي لأنه استنفد كل محاولاته لإقناع الحيوانات بالتحرك فقرر إن يبدأ خطته الخاصة لإنقاذ نفسه من الهلاك وأصبح ndash; يستغل نوم معظم الحيوانات خلال ساعات الصباح الأولى - ليغيب ويعود وقت الغروب وهو مجهد ومنهك ولكنه فخور بما يقوم به وانتبت بعض (من الحيوانات الفضولية ) غياب الضب وإنه إثناء عودته يلاحظ إن هناك غبارا واضحا على انفه وربما يكون وراء هذا الغبار سرا ما فقررت عدد من الحيوانات الخبيثة الوشاية به ndash;وكان على رأسهم صديق خائن - وطالبت بعض الحيوانات اللئيمة إن يتم تقديمه للمحاكمة ndash; بتهمه الغياب المثير للريبة - وطالبت بسرعة النظر في امر غيابة المتكرر ووضعه المريب.

بدأت الجلسة الأولى وكان الضب وحيدا ليس معه الا سلاح الإيمان والشجاعة والقوة والإصرار على الدفاع عن هدف يؤمن به ويقتنع بأهميته مع الرهان عليه وبدأت المحاكمة وتهامس الحضور بان الضب يستحق ما أصابه لأنه أناني ومغامر لا يحسب للأمور حسابها وانه محب للظهور وفيلسوف ويضخم الأمور بل ويحاول التنغيص على الحيوانات الشريفة والبريئة والتي ليس لها هدف في الحياة سوى الأكل والشرب والتجمع البريء في مجموعات والحديث عن الضب وسر غيابه المفاجئ ووجود الغبار على انفه وهو الأمر الذي ترك علامات استفهام كبيرة.

تقدم الادعاء بلائحة اتهام ركيكة ndash; ربما لشعور المدعى العام بأن - الضب شريف ومظلوم وانه ضحية مؤامرة ndash; وتقدم الضب بدفاعه وكان من كلمتين (كنت اصلي ) وان هذا الغبار هو نتيجة طبيعة للسجود ورغم إن القاضي كان من عائله متدينة الا انه لم يكن يتردد في إصدار إحكام ظالمة ndash;بحجه تحقيق العداله - كما انه وتحت ضغوط وإغراءات وتدخلات خارجية فقد حكم مبدئيا بالإقامة الجبرية على الضب ووضعه تحت الملاحظة المستمرة اتقاء لشره.

خرجت افتتاحيات الصحف اليوم التالي بعنوان موحد (ما وراء صلاه الضب؟) ورغم إن الضب اعتبر صلاته موضوعا شخصيا فقد وضح إن هدف الصحف هو البحث عن الإثارة فقط دون إن يكون هناك صحفي محترف يتحقق من الأمر بمهنية ويكشف سر الضب والذي قد يكون وراءه إنقاذ أهل الغابة جميعا...
غلبت على المقالات الصحفية اتهامات شخصية غير موثقه بأن الضب منافق استخدم الدين لحماية نفسه ولتحقيق إغراض شخصية بحته وإظهار انه تقي فيما اتهمه خبثاء بأنه (يحاول إن يتظاهر بالفضيلة) وأصر آخرون على انه يمارس (التقية) وطالبوا بإصدار فتوى لتكفيره مما كشف للضب الكثير من الحاقدين متذكرا انه (في الحقد بخلاف الحب ليس هناك رياء).

عقدت ندوات وحلقات نقاش وكان أهمها حلقه نقاش أطلق عليها (الاتجاه المتعاكس ) وهي حلقه نقاش جادة ولكن غير مفيدة شارك فيها عدد من خصوم الضب الللدويين وبين العديد من الشرفاء والذي كانوا يتعاطفون مع الضب والذين وجدوا المشاركة في البرنامج فرصه للتكفير عن صمتهم المخزي للدفاع عن الضب بصورة جديه كما انه والاهم إنهم وجدوا حلقه النقاش فرصه ذهبية للهجوم على خصوم الضب والتلفظ عليهم واتهامهم بالخيانة والعمالة مع الغرباء المشاع قدومهم.

واستمرت المحاكمة عده اشهر ونظرا لعدم وجود تقنين واضح للإحكام ومع تزايد تدخل جهات معادية للضب وبعضها بسبب خلفيات عنصرية - فقد تحول طلب الادعاء فجأة الى المطالبة برأس الضب ومطالبه القاضي بأن تكون عقوبته الإعدام وليس غيره بعدما طرحت لائحة اتهام جديدة خاصة بعد ثبوت وجود جروح في انف الضب، ولان الضب كان وحيدا فقد تنكر له معظم ممن كانوا يدعون صداقته من المحامين ربما لقناعه بعضهم انه يتحمل مسئولية جرأته وبما انه في خطر فمن الأفضل الابتعاد عنه لأنه هالك لامحاله الا إن هناك بعض الشرفاء ممن كانوا يعرفون إن الضب (ضحية مؤامرة لتشويه سمعته واغتياله وظيفيا ) قرروا مساعدته سرا وساهموا بطرق عديدة وعبر المماطلة والمراهنة على عامل الوقت الحيلولة دون صدور أي حكم واستغلوا مرض القاضي وكبر سنه وتم تأجيل الحكم النهائي مع التحفظ على الضب احتياطيا والطلب منه بوضوح عدم مغادره الغابة الا بإذن خطي ومسبق من الجهات المعنية.

انتظر الضب أياما محدودة حتى تقاعد القاضي العجوز ونسيت الحيوانات اللاهية الأمر وانتقلت الى لهو جديد وحديث أخر فأستغل الفرصة لاستكمال مشروعه ومواصله غيابه اليومي ndash; بدون إذن رسمي - بعيدا عن التجمعات في ظل فضول البعض ووجل وقلق بعض العقلاء من النخبة.كان لسان حال الضب يقول (دع الإحداث تأثر لك..وقتها سيتذكرونك بعد فوات الاون ).

وذات صباح وفجأة ظهر الإنسان الأول ودخل الغابة فأصطاد احد الغزلان وبدأ يشوى لحمه على مرأى من الحيوانات وقبل انصرافه بعيدا قام بعمل كمين لاصطياد أول حمار وقبض عليه وركبه إمام مرأى من الحيوانات المذهولة، وتطلب الأمر عقد اجتماع استثنائي (قمة أزمة) وكان لابد إن يكون موجها الى محاوله الوصول لحل (سريع وواقعي وعملي) لمواجه الخطر المحدق والذي أصبح امرأ واقعا يهدد امن الاجتماع ذاته وطلب من المنظرين إن يخرسوا فقد ذهب وقت التنظير ولابد من حل واقعي وسريع وجاد.

بدأ الاجتماع وسط ذهول ووجوم وخلافات واضحة بين كبار الحيوانات وطلب المسئول بكل حرقه إن يتم التوقف عن تبادل الاتهامات والوصول لحل مقنع وفي ظل غياب أية حلول جديه فقد صمت الجميع وساد صمت غريب وفي تلك اللحظة كان الإنسان يوجه سهما لأحد الأرانب الصغيرة والبريئة ويقتلها ويسلخ جلدها ليس بعيدا عن مكان الاجتماع وفي هذه الإثناء وبسبب ضغط واضح من بعض - العارفين ببواطن الأمور ndash; طلبوا إن تتاح الفرصة للضب للحديث ولو لدقيقة واحده فأعطي الكلمة من المسئول عن الاجتماع على مضض وقال بكل جرأه وثقه وزهو الحل بسيط وواضح وعملي (من حفر له جحرا فلينجحر فيه).

وبدون إعطاء الفرصة لبعض الصحفيين الفضوليين غادر الاجتماع سريعا للتوجه لجحره الأمن والذي عمل على تجهيزه طوال عام..
صاح احد ndash; والذي اكتشف بعد فوات الاوان إن الضب لم يكن من المصلين وإنما كان من الحفارين - وماذا عن من لا يوجد لديه جحر فأين ينجحر؟
التفت إليه الضب متجهما ورمقه بشفقه وصمت.. ربما لم يكن لديه وقت للإجابة في الوقت الضائع..
** باحث في العلاقات الدولية