لدي أصدقاء يتعاطون قولَ الشِّعْر، ويجمعون ما جادت به قريحتهم كل ستة أشهر، ليصدر في كتيب يسمونه ديوانا شعريا.
وفي كل سنة تزداد أعدادهم والمجاميع..
وفي كل سنة تفرخ القصائد المجترة للأفكار، والمفلسفة للرأي بالسفسطة..

ينامون كالتنابلة على أريكة الكسل، لا يعملون ولا يخوضون غمار العيش، بل لا يقرأون، فلفائف التبغ، وزجاجات الويسكي تمنعهم عن ذلك.

من يعش في أوربا منهم يتلقى دخلا شهريا ndash; مساعدة اجتماعية - تكفيه لسد رمق العيش، ومن يعش في البلاد العربية يعش يومه بالحيلة وهو العاطل، وربما له عذر.
ولست بصدد البحث عن أسباب البطالة، لكني أعيب على أولئك الذين يتصورون ان كتابة شعر تغني عن العمل، فهو يترفع عن العمل في هذا المجال أو ذاك لأنه يقرض الشعر، وان دواوينه التي لم يقرأها احد تغفر له ذلك.

والى وقت قريب، كان جل شعراء العرب المعروفين هم من الاكاديميين، مدرسين وأطباء ومهندسين، وأصحاب شهادات، سعوا الى الشعر مثلما كافحوا لأجل العلم والثقافة، ولم يتكئوا على عكاز الشعر الا بقدر حبهم الفطري غير المصطنع له فأجادوا، وخلدوا، وسعت إليهم الشهرة سعيا ولم يلهثوا خلفها، أما اليوم فقد اختلط حابل الشعر بنابله،
فلا فرق بين شاعِرٌ، و شُوَيْعِرٌ، و شُعْرُورٌ، و مُتَشاعِرٌ، من فرط الفساد في الأذواق.

وليس في هولندا على سبيل المثال لا الحصر، من يقول ان وظيفته او مهنته quot;شاعرquot;، ذلك اغلب شعراء الجنوب الهولندي الذين اعرفهم لهم وظائف أخرى يعتزون بها على رغم غزارة إنتاجهم الشعري الذين يفوق في كمه ونوعيته انتاج شعراء الكسل، بل ان جلهم لديه عمل مدته ثمان ساعات وتزيد.
ولعل الظاهرة اليوم تنتشر في العراق بشكل جدي ومقلق، فاغلب شباب العراق يقرضون الشعر quot; الشعبي quot; واغلبهم يحفظ عشرات القصائد وأبيات quot;الدارميquot;، وهو يتناوبون الظهور في الميديا عبر برامج يديرها quot;أرباعquot; مثقفين، جعلوا من الشعر الشعبي نظرية لها قواعد وأصول، بل يتناوبون - مثلما شعراء القصيدة الحديثة - قراءة مجاميع بعضهم قصائد الآخر، بطريقة تنقصها أكاديمية البحث، وتطغى عليها quot; الإخوانيات quot; والمجاملة.

أهداني صديق quot;مُتَشاعِرُquot; قراءات لنقاد عن أسلوبه quot; الفريد quot; في الكتابة، فتفاجأت أن احدى الدراستين ليس بجديدة علي، وبعد بحث غير مضن في quot; غوغول quot; اكتشفت ان الناقد استنسخ ذات دراسته لمجموعتين، ولم يبدل غير المقدمة لتبدو مختلفة.

ولاغرو في ذلك، فأصدقائي من شعراء الفصحى المحدثين، يعرفون ان مجاميعهم لا تقرأ إلا بقدر معين من قبل النخبة من الأصدقاء، والندماء، وزملاء المهنة، والقراءة الشعرية للمجموعة تمرر عبر جلسات الندامة، والإهداء لناقد او مثقف عسى ينشر قراءة quot;المجاملة quot;.
وما يعيب هؤلاء الشعراء انهم - حتى الذين هاجر منهم الى الغرب منذ عقد ndash; فأتيحت له فرصة الدراسة والبحث لم يوسع معرفته أو يتسلح أكاديميا بالمعرفة بل ظل على نفس طريقة العاطلين في كتابة الشعر، قلم وورقة وكؤوس وتسكع.

والمشكلة في كل هذا، ان quot;الشعراءquot; في وطننا العربي يزدادون، بينما يتناقص العلماء والأكاديميون البحثيون، في وقت يتوجب فيه ان يكون علاج المرض بوصفة طبية من طبيب شاعر، ورغيف خبر من خباز يقرض الأبيات.

أخيرا، فقد أفرحني ان أحدهم كتب على صفحات الفيس بوك اعترفا بحقيقة العجز:
quot; كنت أعتقد.. أنني حين.. أكتب قصيدة.. فأنا قادر على شفاء الأكمه والأبرص والأعمى لكن نشرات الأخبار علمتني... أن كل القصائد لا تساوي رغيفا.. أو قنينة دواء.. quot;
والعبرة لمن اعتبر.