مثال ثاني عن تلك الفجوة هو موضوع المصافحة بين الرجل والمرأة. فالكثير من الملتزمين والملتزمات يواجهون حرج في موضوع المصافحة، ويتم التركيز في هذا الموضوع على النساء المحجبات أكثر من الرجال ولو سألت رجل الدين عن هذا الفعل سيقول لك بأن ملامسة المرأة ليد الاجنبي حرام شرعا ً من غير التفكير بالمبدأ الأخلاقي وعواقب هذا الفعل المباشرة وغير المباشرة، كالحرج الكبير الذي يحدث وصورة المسلم بعيون الآخر. لاأتكلم عن عواقب عدم المصافحة وتاثيرها على الفرد والمجتمع كتقليل التواصل وخلق حواجز تعيق نقل الصورة الصحيحة إلى الأضرار الأخرى كفقدان العمل أو قلة الأصدقاء بسب الكثير من الحواجز الشرعية، وليست المصافحة فقط. سيقول رجل الدين لك فكر بماستقوله لربك يوم القيامة ولايسئل نفسه ماذا سيقول المسلم لربه عندما يعطي صورة سلبية عن أن المسلم بعيد كل البعد عن روح اللياقة والذوق بعدم إحترامه لطريقة تعارفت عليها الكثير من الثقافات وعبر عصور كثيرة، فالمصافحة مفتاح للتواصل وكسب الآخر. فأنا هنا لاأطرح موضوع شرعية أم عدم شرعية أو أخلاقية أو عدم أخلاقية الفعل فلكل فرد وهو حر في عمله وسلوكه وتبريره لكني أريد طرح موضوع الفجوة بين الشريعة والنظرة الأخلاقية التي هي غالبا ً كبيرة وتكبر كلما إبتعدنا عن مصادر التشريع في الشرق الأوسط والعالم الأسلامي. فمن الناحية العلمية فقد ركزت نظرية التنافر أو الإختلاف الإدراكي (theory of cognitive dissonance) على هذا الموضوع. فالنظرية تقول أن حدث هناك إختلاف بين فكرة الإنسان عن شيء وسلوكه تجاه ذلك الشيء فهو يتبع طرق ثلاث للتخلص والإفلات من حالة التناقض والإزدواجية. كموضوع الإنفصال مثلا ً فهو ينم عن حالة من التناقض التي لابد أن تبرر بحال من الاحوال. فالطريق الأول هو تغير السلوك بما يلائم الفكرة عن الموضوع كتطليق الزوجة شرعا ً أو إلغاء حالة الإنفصال على الورق فقط في دوائر الدولة، وهذا يحدث نادرا ً. الطريق الثاني هو تعديل الفكرة لتبرير السلوك، كأن يقول هو ليس طلاق حقيقي وإنه فقط على الورق، ولايوجد من يحرمه بشكل صريح. أما ما يمس الجانب الاخلاقي فيمكن أن يبرر العمل بالقول، وهل من الأخلاقي أن أبقى بلا عمل ومساعداتي الإجتماعية لاتكفي، أو فلان ليس بأفضل مني فهو رجل متدين وقام بنفس العمل مما يضيف شرعية على العمل. الطريق الثالث هو إضافة فكرة جديدة على الفكرة السابقة عن الموضوع لتبرير العمل كالقول مثلا ً، نحن ليس في دولة إسلامية أو تلك دولة كافرة ولانعترف بقوانينها أو ماشابه ذلك. إذن، توجد هناك فجوة كبيرة بين ماهو شرعي وماهو أخلاقي مما يجعل الكثير منا يقع في تناقض عجيب أو تشدد في ماهو شرعي على حساب ماهو واقعي وماهو مطلوب. هذا يخلق شخصية ومجتمع إزدواجيين ويؤدي إلى حالة من التناقض، وهذا بالضبط مانعيشه في مجتمعاتنا العربية، فقد صارت الشريعة منظومة من القيود على الفرد تعيق حركته وتطوره. إن من ينكر هذه الحقيقة كمن يدفن رأسه في الرمال أو كمن يلبس نظارات ملونة حيث يريد أن يرى العالم الخارجي باللون الذي يعجبه. والسؤال المهم هو، مالحل؟ هل نحن بحالجة لشريعة لكل تفصيلة في حياتنا وهذه التفاصيل تتجدد في كل لحظة؟ وأن أمكن تجنيد جيش من المشرعين لهذا فكيف يمكن أن تلائم كل بلد وكل ثقافة بل ثقافات متعددة في مجتمع واحد؟ وماعلاقة تلك التشريعات مع القوانين لكل البلدان التي يجب أن نحترمها إذا عشنا فيها؟ بالتأكيد الجواب لايمكن خلق شريعة بهذا الحجم فهو غير ممكن من الناحية الفنية والعملية. فعلى المستوى الفردي، يمكن تنمية الحس الأخلاقي الذي يهضم ثقافات متعددة في أزمان مختلفة مقابل تقليص ماهو شرعي في التفاصيل الدقيقة والذي يقيد الإنسان في كثير من الأمور ويجعل منه كالرجل الآلي أو كالمريض الذي لابد من أخذ إرشادات الطبيب لكي يشفى أو على حد قول المشرعين لينجو. وتوسيع ماهو أخلاقي من خلال تنمية العقل النقدي بالخصوص لدى الأطفال، أي الإنطلاق دائما من معيار خلقي لتقييم الأفكار والأفعال وليس بالضرورة يكون ضد ماهو ديني. فالدين كمنظومة من القيم عالج الكثير من المسائل الأخلاقية لكن المشكلة بما هو شرعي الذي يريد أن يؤطر ماهو ديني بقالب معين ويعممه على كل زمان ومكان فتحدث حالة التناقض. إن تعميم ماهو أخلاقي يعطي الإنسان شخصيته والحرية في تقييم ذاته ونقدها وتصحيح مسارها ويحمله مسؤولية أفعاله من خلال ربط الفعل بالأثر والعاقبة وليس فقط بالعاقبة الأخروية. إن الشرعي فيمكن أن يقيد حركة الإنسان ويضيعه في التفاصيل التي تحرمه من متعة التفكير والإبداع ونقد الذات ولا أقصد هنا تقليصه على حساب المسائل الكبرى كتحريم الزنا أو أكل اللحم الغير مذبوح شرعا ً أو شرب الخمر، بل في التفاصيل التي لها بعد إجتماعي كالمصافحة مثلا ً أو عمل المرأة والإختلاط بالرجل في الدراسة والعمل والقائمة تطول.
إن أكثر من يواجه مشاكل في التوفيق بين الشريعة والقيم السائدة في المجتمع بصورة عامة هم المهاجرون المسلمون الذين يعيشون في الغرب. سأضرب مثلين في هذا الموضوع. إن الكثير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب يقومون بالتحايل على القانون من أجل مكاسب مادية أو من أجل التهرب من مسؤوليات معينة أمام السلطات والقوانين في تلك الدول. فهناك الكثير، في السويد مثلا ً، ممن يلجأ للإنفصال عن زوجته، في الدوائر الحكومية فقط وليس شرعا ً، من أجل الحصول على مكاسب مادية كإيجار شقة أو راتب مساعدة إجتماعية إضافي أو من أجل التهرب من البحث عن عمل مع ضمان تدفق المساعدة المادية لعائلته، مما جعل بلدية مالمو في ذلك البلد تقوم بإحضار مأذون شرعي أو إمام لتوثيق عملية الإنفصال كي تكون شرعية أيضا ً. لكل له أسبابه المبررة وغير المبررة.السؤال المهم هنا، هل هذا عمل أخلاقي قبل أن يكون شرعيا ً؟ إن الكثير من هؤلاء مسلمون ملتزمون ومنهم شيوخ دين أيضا ً. ولو سألت أحدهم، إن إعترف بذلك، سيقول لك أنا لم أطلق زوجتي فهي على ذمتي وهذا على الورق فقط. وإن سألت رجل دين أو ماهو سائد بين المتدينين فسيقولون هي زوجته ولم تطلق إذ لايوجد بالشرع مايقول أنه حرام. لكن يمكن أن تحرم بالعنوان الثانوي كعملية خداع، والخداع غير جائز شرعا ً لكن من السهل تبريره وإيجاد له مخرج أو حيلة شرعية. هذا الفعل يطرح السؤال عن الفجوة بين الشريعة والأخلاق الذي ذكرته في مقالتين سابقتين وهنا أريد أن أتناول الموضوع على المستوى الفردي وليس الجمعي.
- آخر تحديث :
التعليقات