في 14 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1936 وُلدت ثريا الشاوي في مدينة فاس في المغرب، وهي تُعد واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ المغرب والعالم العربي حيث سطّرت اسمها في سجلات التاريخ كأول قائدة طائرة مغربية في حقبة كانت فيها النساء نادراً ما يقتحمن مجالات تُعتبر حصرية للرجال.
وواجهت ثريا منذ صغرها تحديات اجتماعية وثقافية هائلة، لكنها تجاوزتها بفضل دعم أسرتها وإصرارها على تحقيق أحلامها. لم تكن مسيرتها خالية من العقبات، سواء على المستوى المهني أو الشخصي، وانتهت حياتها القصيرة بطريقة مأساوية.
النشأة والخلفية العائلية
وُلدت ثريا الشاوي في أسرة متوسطة الحال، وكان والدها عبد الواحد الشاوي، صحفياً ومخرجاً مسرحياً، ووالدتها زينة الشاوي. ولها شقيق هو صلاح الدين، الذي كان فناناً مشهوراً عاش في مدينة فيشي بفرنسا.
وكان والدها من أبرز داعميها في مشوار حياتها، وفي عام 1943 أحضر لها أساتذة ليلقنوها دروساً في الفقه والنحو والتاريخ.
وقد أظهرت منذ صغرها شغفاً بالتميز، فكانت مولعة بالألعاب الميكانيكية وعاشقة لتفكيكها وتركيبها بعيداً عن ألعاب الأطفال العادية، وترقبت بإعجاب الطائرات التي كانت تحلق فوق منزلها.
وخلال طفولتها، عانت من مرض صدري مما دفع والدها إلى اصطحابها في رحلة جوية كنوع من العلاج. وهذه التجربة تركت أثراً عميقاً في نفسها وأشعلت شغفها بالطيران.
تعدد المواهب
لم يكن لثريا الشاوي اهتمام بالطيران فقط، بل كانت لها العديد من الاهتمامات والمواهب، التي تشمل مجال الأدب، وخصوصاً الشعر والقصة، فضلاً عن شغفها بالتمثيل.
فعندما قرر المخرج الفرنسي أندريه زوبادا إخراج فيلم "البوابة السابعة" في مدينة فاس عام 1948، أدّت دوراً فيه برفقة أبيها الذي شاركها التمثيل إلى جانب أبطال الفيلم، وكان عمرها 13 عاماً.
وكان الفيلم يدور حول رجل عجوز يحتضر يعطي ثروته لمتسول شاب ويخبره أن الثروة في بيته وعليه الذهاب إلى هناك وفتح الأبواب الستة الأولى وتجنب فتح الباب السابع أبداً. لكن لم يستطع المتسول الشاب مقاومة إغراء فتح الباب السابع حيث عثر على عالم غامض وفتاة صغيرة توافق على أن تكون مرشدته.
الطيران
عد تخرجها من المدرسة الثانوية في عام 1950، تمكن والدها من تسجيلها في مدرسة "تيط مليل" للطيران في ضواحي الدار البيضاء. وواجهت الأسرة انتقادات وسخرية من المجتمع آنذاك، لكن إصرار عبد الواحد الشاوي على دعم ابنته جعلها تكسر هذه الحواجز. وقد انتقلت الأسرة بأكملها إلى الدار البيضاء لتكون قريبة من المدرسة وتوفير الدعم اللازم لثريا خلال فترة التدريب.
وبعد عام من الدراسة ودروس الطيران، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها، حصلت ثريا على رخصة الطيران في 17 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1951، وهي في سن 16 عاماً فقط.
وكان اجتياز اختبار الطيران في ظروف جوية سيئة دليلاً على شجاعتها ومهارتها، حيث حلقت على ارتفاع ثلاثة آلاف متر، وقطعت مسافة على شكل دائرة محيطها 40 كيلومتراً، وبذلك حصلت ثريا على شهادة الطيران.
وكان أول ما فعلته بعد حصولها على رخصة قيادة الطائرات، هو قيادة طائرة من نوع "بيبر" حيث قطعت المسافة بين الدار البيضاء والرباط، ثم عادت أدراجها إلى مطار تيط مليل.
ولم يكن إنجازها مجرد حدث محلي، بل لقي صدى دولياً حيث احتفت بها الصحافة المغربية والدولية. وأقامت جمعية "الأجنحة الشريفة" حفلاً على شرفها. كما حظيت بتكريم من شخصيات بارزة مثل الملك محمد الخامس، الأميرتين لالة عائشة ولالة مليكة، والسياسيين محمد بن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي الذي خاطب والدها قائلاً: "هكذا أحب أن يكون الآباء". كما تلقت صورة موقعة من الربانة الفرنسية جاكلين أوريول.
مساهماتها الوطنية والاغتيال
وفي الدار البيضاء بدأت ثريا وشقيقها الأصغر في الاحتكاك بأعضاء بارزين في الحركة الوطنية المغربية حيث كان المغرب محمية فرنسية حتى استقلاله عن فرنسا في عام 1956.
وقد لعبت ثريا دوراً بارزاً في دعم الحركة الوطنية المغربية، فخلال فترة النضال من أجل استقلال المغرب، شاركت في فعاليات وطنية عدة، وكان أبرزها تحليقها بطائرتها فوق موكب الملك محمد الخامس عند عودته من المنفى عام 1955، وألقت من طائرتها منشورات ترحب بعودة الملك.
وبسبب مواقفها الوطنية باتت ثريا مستهدفة حيث تعرضت إلى محاولات متكررة للاغتيال لكنها باءت بالفشل، أولها كان في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1954، حيث "وضعت مجموعة إرهابية فرنسية" قنبلة أمام باب منزلها مما ألحق خسائر جسيمة بالمكان، لكن دون أن يُصب أحد بأذى، وفق الصحافة المغربية.
وكانت المحاولة الثانية في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، بعدما أدخلت سيارتها إلى المرآب برفقة والدها، واتجها إلى منزلهما فأُطلقت عليهما 8 طلقات من رشاش، ولحسن حظهما لم يصابا بأذى.
وفي آب (أغسطس) من عام 1955، حاول شرطيان فرنسيان إطلاق النار عليها وهي بداخل سيارتها بصحبة والدتها، لكن احتشاد الناس حولهما حال دون إصابتهما، بحسب ما تذكره مصادر تاريخية مغربية.
وفي الأول من آذار (مارس) من عام 1956، أي قبل يوم واحد من إعلان استقلال المغرب عن الحماية الفرنسية، قتلت برصاصة في رأسها خارج منزل عائلتها، وكان عمرها 19 عاماً.
وقد صدمت هذه النهاية المأساوية المغرب والعالم، وحُرمت البلاد من شخصية استثنائية كانت تمتلك إمكانات هائلة لتقديم المزيد.
وبعد سنوات ذكر ضابط مخابرات مغربي أن مقتل ثريا الشاوي تم على يد أحمد الطويل، وهو عنصر في ميليشيا سرية كانت معروفة بتنفيذها عمليات الاغتيال آنذاك، وكانت ثريا قد رفضت الزواج منه.
بينما يؤكد الصحفي المغربي لحسن لعسيبي أنه وإن كان الفاعل أحمد الطويل، فإن من أمر بالتصفية، هي جهة أكبر منه حيث تم استهداف ثريا الشاوي لرمزيتها، وموقفها الوطني، وعلاقاتها القوية مع الأسرة المالكة، وأيضا لكونها أصبحت رمزا للمرأة المغربية الناجحة، مشيراً إلى أن هذه الجهة هي فرنسا.
الإرث
لم تكن ثريا الشاوي مجرد امرأة سبقت عصرها، بل كانت شخصية استثنائية تركت أثراً لا يُمحى في التاريخ. فمن خلال شجاعتها وتصميمها، فتحت أبواباً جديدة للنساء في مجالات لم تكن متاحة لهن.
ورغم نهايتها المأساوية، تظل قصة حياتها مصدر إلهام ورمزاً للتحدي والطموح، ليس فقط للنساء المغربيات ولكن للنساء في جميع أنحاء العالم العربي والعالم.
ويروي شقيقها صلاح الدين عن حادثة طريفة جرت معها عندما كانت مسافرة مع عائلتها في مطار مالقة بإسبانيا في رحلة إلى تطوان سنة 1953. فلمحها أعضاء من الطاقم وهي ترتدي لباس ربانة طائرة مدنية، فبدأوا يسخرون من الزي وهي في سن 17 عاماً وقصيرة القامة، فاعتقدوها طفلة تتشبه بالربابنة.
وبعد بضع دقائق من إقلاع الطائرة، أصرت ثريا على رؤية ربان الطائرة الإسباني، فانضمت إلى كابينة القيادة وحياها. ففوجئ عندما أخبرته أنها ربانة طائرات، فدعاها أن تكمل الرحلة حتى تطوان أمام ناظريه.
وحين حطت الطائرة بمطار تطوان، تناول الربان الميكروفون وقال للمسافرين: "أيها السيدات والسادة، أود أن أعلمكم أن هذه الرحلة قادتها هذه السيدة الشابة".
التعليقات