منذ انتهت الحقبة الديمقراطية التي شهدتها مصر في النصف الأول من القرن العشرين تثور على الدوام قضية أوضاع الأقباط والاضطهاد الذي يعانونه والتمييز الذي يتعرضون له. تختلف الرؤى بشأن القضية بحسب التوجهات الفكرية والدينية والسياسية، إذ يعترف الحقوقيون المعتدلون والمنصفون بآلام الأقباط، بينما ينكرها المتطرفون والمحسوبون على النظام الحاكم. ترتبط أوضاع الأقباط عادة بعوامل عديدة ولكني سأختص منها هنا عاملين اثنين، يتعلق أولهما بنظرة النظام الحاكم للأقباط وعلاقته معهم ومع قيادتهم الدينية، ويتعلق ثانيهما بعلاقة النظام الحاكم بجماعات التطرف وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. لم تستمر أوضاع الأقباط على حال معين طوال العقود الماضية التي تلت ثورة يوليو وتحت ثلاث قيادات سياسية هي عبد الناصر والسادات ومبارك، فقد تحسنت الأوضاع في فترات وساءت في فترات أخرى. وبقي العاملان المذكوران باستمرار مقياسين مهمين لحال الأقباط في الحقب الثلاث رغم التحولات السياسية والتغيرات الاجتماعية والتقلبات الفكرية التي شهدتها مصر في كل حقبة منها.

يعتبر الكثيرون من الأقباط أن فترة حكم جمال عبد الناصر شكلت العصر الذهبي للمسيحيين في مصر لأنها لم تشهد اضطهاد منتظم بحقهم أو تمييزمنظم ضدهم. من المفيد هنا ذكر أن الغالبية العظمى من الأقباط الذين تعلّقوا بعبد الناصر كانوا من أبناء الطبقة الوسطى التي لم تعان سياسات التأميم الناصرية. ولكن التاريخ يؤكد على أن عبد الناصر حين جاء إلى السلطة لم يكن يعطي الأقباط أية أهمية ولم يبال بحقوقهم كأقلية كان يجب إدماجها في النظام والمجتمع. لعبت الخلفية الدينية لعبد الناصر دوراً في تهميشه المتعمد للأقباط، إذ كان عبد الناصر عضواً في جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تعمل خلال الحقبة الديمقراطية التي سبقت ثورة يوليو على إظهار الوجه الإسلامي العربي لمصر واستبعاد وجوهها الفرعونية والقبطية.

لكن انقلاب عبد الناصر على قيادات الإخوان بعد اختلاف رؤاهم السياسية ومحاولتهم اغتياله في حادث المنشية الشهير عام 1954 نقطة تحول كبرى في تاريخ الإخوان المسلمين وبالتالي في جهودهم لأسلمة مصر. لم يستطع المتطرفون بعد ذلك الكشف عن وجوههم القبيحة لأن ناصر بعدما اكتوى بنارهم لم يسمح لهم بأي وجود فعلي على الساحة. كان اختفاء الإخوان المسلمين عن خارطة العمل العام عملاً إيجابياً أعطى ثماراً جيدة، إذ لم تشهد مصر طوال حين ذاك أحداثاً طائفية تذكر. وتركزت بذلك معاناة الأقباط في فترة حكم عبد الناصر في تهميشهم.

تغيرت الأمور تماماً عندما جاء أنور السادات إلى السلطة عام 1970. فضلاً عن موقفه العدائي الواضح من الأقباط، أطلق السادات يد الإخوان المسلمين في المجتمع المصري لمساعدته في تحقيق أهدافه السياسية التي تمحورت حول إزالة مظاهر العهد الناصري، وتحويل مصر إلى دولة إسلامية. أصبح الإخوان المسلمون في سنوات السبعينيات شركاء في هرم السلطة الساداتية، وتمكنوا من نشر وتطبيق أفكارهم وسياساتهم المتطرفة وتم الإعلان رسمياً عن مصر الإسلامية التي يحكمها رئيس مسلم.. تدهورت بعدئذ أوضاع الأقباط وبدأت مصر تشهد أسوأ الحوادث الطائفية في تاريخها المعاصر، إذ أُحرقت الكنائس، وقتل الأقباط في منازلهم وفي مقار أعمالهم، وجرى الاعتداء على ممتلكاتهم، واختطاف نسائهم وإجبار أطفالهم على اعتناق الإسلام.

سمع العالم أنين الأقباط ولكنه لم يتدخل لأن السادات عرف بدهاء شديد كيف يقمع الأقباط من دون أن يفقد علاقاته القوية مع العالم الخارجي. كانت اتفاقية كامب دايفيد على كل فوائدها وإيجابياتها وحسناتها شوكة في ظهر الأقباط لأن السادات نجح عبرها في تصوير نفسه خارجياً على أنه رجل اعتدال وسلام وهي صورة مغايرة تماماً لشخصيته الحقيقية التي عكستها سياساته الداخلية الخاطئة. كسب السادات باعترافه باسرائيل ود المجتمع الدولي الذي لم يرغب في الدخول مع السادات في خلافات خشي الغرب أن تؤثر على مبادرته السلمية مع إسرائيل.

لا يعتبر الرئيس حسني مبارك أفضل حالاً تجاه الأقباط من الرئيسين اللذين سبقوه، إذ لم يظهر الرجل أي بادرة ودية استثنائية نحوهم، ولم يشأ تغيير السلبية التي خلفتها الثورة الناصرية ولم يرغب في تغيير الأوضاع العكسية التي أنتجها العصر الساداتي، وذلك على الرغم من محاولاته الحثيثة للظهور بصورة الرئيس المعتدل المتوازن. ويكفي للاستدلال على ذلك التذكير بأن مبارك لا يتدخل تلقائياً لإنصاف الأقباط في معاناتهم اليومية مع المتطرفين الإسلاميين، وبأنه لم يقم طوال العقود الثلاثة الماضية من حكمه بزيارة لكنيسة أو بعقد لقاء خاص مع الأقباط لمناقشة متاعبهم وألامهم، وبأنه لم يستقبل البابا شنوده إلا مرة واحدة، على ما أذكر، إضافة إلى لقاء الأمس الذي امتد ثلاثين دقيقة، وبأنه يتعامل مع الأقباط على أنهم مواطنون درجة ثانية لأنه يحضر بنفسه أو على أدنى تقدير يرسل مندوبين كبار عنه لحضور احتفالات المسلمين بالمناسبات في الوقت الذي يرسل فيه فقط كبير ياورانه لحضور احتفالات المسيحيين بأعيادهم

لا يمكن إنكار أن الرئيس مبارك سعى كثيراً حين جاء إلى الحكم عام 1981 لتجنب الوقوع في أخطاء سلفيه وبخاصة السادات. عمل مبارك على تنظيف السلطة من نفوذ الإسلاميين ولكنه واجه عقبات كبيرة حين لجأ أعداؤه المتطرفون للعنف المسلح ضد النظام والأقباط. أدرك مبارك بعد مرور عقد ونصف من المواجهة معهم استحالة اجتثاثهم من مواقع نفوذهم، ورضخ للأمر الواقع وقبل بشراكة معهم تذبذبت وتيرتها بحسب المتغيرات الداخلية والخارجية. سمح مبارك للإخوان المسلمين في أوقات التفاهم بالوجود والعمل بحرية حتى أن 88 عضواً بالجماعة تم انتخابهم لعضوية مجلس الشعب، أعلى سلطة تشريعية في البلاد، عام 2005، على الرغم من أن الجماعة محظورة رسمياً من الوجود، بينما عرقل مبارك مرور ونجاح الإخوان في أوقات الاختلاف.

كان ما حدث مؤخراً من هجوم أمني قامت به الدولة الشهر ضد الأقباط في العمرانية ورد الفعل القبطي الغاضب عليه ثم تحدي الدولة باستبعاد الأقباط من الانتخابات النيابية وتعيينها أشخاصاً غير مرغوبين فيهم كممثلين للأقباط في مجلس الشعب دليلاً على أن أوضاع الأقباط لن تشهد تغيراً كبيراً في المستقبل القريب. من الواضح أن الرئيس مبارك ما يزال ممسكاً بقوة بزمام الأمور في مصر رغم كل المؤشرات التي تؤكد على ترهل النظام الحاكم، ومن المؤكد أنه طالما بقي النظام الحالي في السلطة وأبقى على سياسته التي تراعي وتجامل الإسلاميين ليس هناك أمل في أن تتحسن أوضاع الأقباط.

يتطلع الكثيرون من الأقباط إلى التغيير في مصر حالهم حال الكثيرين من شركائهم في الوطن، ويضع هؤلاء أمالهم على أشخاص بعينهم مثل الدكتور محمد البرادعي والدكتور أيمن نور لإحداث التغيير المنشود. لا يختلف اثنان على أن الدكتور البرادعي من الشخصيات التي لاقت احتراماً دولياً كبيراً خلال توليه إدارة هيئة الطاقة النووية، كما أن الدكتور نور من الشخصيات المعارضة التي اكتسبت تعاطف العالم خلال معركته مع النظام الحاكم التي انتهت بسجنه. ولكن من الصعب القول بأن أياً من الشخصيتين قادر على تحويل الأوضاع المتردية التي تعيشها مصر، فلا البرادعي ولا نور يملكان عصا سحرية للقضاء على التطرف والإرهاب والعشوائية والكراهية والجهل والأمية. يضاف إلى ذلك أن موقف الرجلين من جماعة الإخوان المسلمين، التي حددت تقريباً علاقة الأنظمة الحاكمة بالأقباط في العقود الستة الماضية، كان قريباً من التحالف معها، وهو ما يضع علامات استفهام عديدة حول وضع الأقباط في حال تولى أحدهما المسئولية.

[email protected]
Twitter@JosephBishara