لم تعد الديمقراطية، كغيرها من المصطلحات الحريرية، حكراً على الغرب ومؤسساته وأحزابه وحكوماته. ففي السنوات الأخيرة من هذا الزمان الديمقراطي، بدأنا نسمع ونقرأ الكثير عن الشرق وquot;ديمقراطياتهquot; المتكاثرة.
ولما لا..quot;ما في حدى أحسن من حدىquot;، كما يقول المثل الشامي المعروف!

الديمقراطية، منذ نشأتها في quot;أثينا القديمةquot; على يد فيلسوفها، تلميذ إفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، أرسطو الكبير(توفي 322 ق ب)، إلى آخر ديمقراطية وليدة في عالم اليوم، ليست واحدة، بل هي كثيرة ومتعددة.

ربما تأسيساً على هذا quot;الكثير الديمقراطيquot;، بات الكلّ، اليوم، مشرقاً ومغرباً، ديمقراطياً، ومن الديمقراطية وإليها، طالما أنّها لا تكلّف حامل رايتها، شرقاً، سوى quot;كمشة كلامquot;، في أصول quot;حكم الشعب بنفسه ولنفسهquot;، كما تقول قصة الديمقراطية في الغرب، والتي يعود تأسيسها الأول، بمفهومها الحديث نظرياً، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك بدءاً من أميركا سنة 1857، علماً أن التطبيق الفعلي للديمقراطية المعروفة في النظم الغربية بquot;الديمقراطية الليبراليةquot; الضامنة لحقوق الأفراد والجماعات معاً، بإعتبارها أرقى أشكال الديمقراطية، يعود إلى بدايات القرن الماضي.

عربياً، يعيش العراق الجديد اليوم أكبر quot;زحمة ديمقراطيةquot;، على الإطلاق.
فمن السهل جداً أن ترى في أرض السواد، اليوم، من يتحدث عن ديمقراطية كثيرة لا تُعد ولا تُحصى: quot;ديمقراطية توافقيةquot;، وquot;ديمقراطية دينية أو سماويةquot;، وquot;ديمقراطية طائفيةquot;، وquot;ديمقراطية ملليةquot;، وquot;ديمقراطية حزبيةquot;، وquot;ديمقراطية قبليةquot;، ناهيك عن الديمقراطيات الأخرى المتعارف عليها، عالمياً، كالديمقراطية النيابية، والديمقراطية التشاركية، والديمقراطية الإستشارية، والديمقراطية الدستورية..إلخ.

فالكل نظرياً، يرتكن في كلامه quot;الديمقراطيquot;، على الدستور، أما عملياً فلكلٍّ دستوره الخاص، المؤدي إلى quot;ديمقراطيته الخاصة جداًquot;.

من تابع وقائع اليوم الرابع لمؤتمر الديمقراطي الكردستاني، الذي بدأ أعماله في الحادي عشر من الشهر الجاري في هولير، لا شكّ وأنه فهم بعضاً من أصول quot;الديمقراطية الحديثةquot;، بنسختها العشائرية، لكن على الطريقة الكردية هذه المرة؛ تلك الديمقراطية التي طالما ذهب البعض الكاتب، داخل كردستان وخارجها، في تفخيمها وتعظيمها وتأليهها شططاً.

تابعت الملايين الكردية، quot;مسرحية الديمقراطيةquot;، بقيادة السيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان، الذي كشف النقاب على الملأ، وعلى الهواء مباشرةً، عن quot;ديمقراطيةquot; حزبه العشائرية، التي أكل عليها الدهر وشرب، ولا تليق بتاريخه النضالي الطويل، منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان.

بترشيحه أمس لإبن آخيه وصهره نيجيرفان بارزاني quot;نائباً أكيداًquot; له، أطلق البارزاني مسعود الرصاصة الأخيرة، على quot;ديمقراطيةquot; حزبه الديمقراطي، فضلاً عن quot;ديمقراطيةquot; كردستان التي يترأسها.
أما حجة بارزاني الأساسية، التي أسس عليها ترشيح إبن أخيه نائباً له، فكانت quot;نظرية المؤامرةquot; المعروفة والتي يستخدمها زعماء السياسة في الشرق عادةً، في ظروف quot;المعركة المصيرية الحساسةquot;، أو ما سماه بquot;محاولات الأعداء لضرب الحزب ببعضهquot;!

تبيّن من حديث الرئيس بارزاني ونائبه، وسردهما المطوّل لتاريخ الثنائي القيادي(الرئيس مسعود وشقيقه الراحل إدريس)، وتركيزهما على نضالهما المشترك، في كونه نضالاً واحداً لا يتجزأ، بسياسة واحدة، ومنهج(بارزاني) واحد، في حزب واحد، لأجل أهداف واحدة، تبيّن أنّ البارزاني مسعود، ربما أراد بهذه التزكية، أن يفي بدين أخيه في الحزب عليه، فضلاً عن أنه قطع الطريق بذلك أمام المعوّلين على الصراع العائلي على النفوذ في كردستان، أو الصراع المفترض بين الحرس القديم والحرس الجديد في الحزب.
لا حرس قديم ولا جديد في الحزب إذن، إنما الموجود، هو أن الحرس الجديد في الحزب هم أبناء الحرس القديم، لا أكثر ولا أقل.

وسائل إعلام الحزب نشرت على الفور، هذا quot;الخبر الديمقراطيquot;، تحت quot;عنوان ديمقراطي جداًquot;: تم إعادة انتخاب مسعود بارزاني رئيساً للحزب ونيجيرفان بارزاني نائباً له بمطلق الأصواتquot;!
نعم بالمطلق، بلا زبادة ولا نقصان.

بالأمس، كنا نحن الهاربين من جحيم لاديمقراطياتنا نلوم أسيادها الدّواسين على الحق الكردي في تقرير مصيره، على فوزهم التقليدي بنسبة quot;99و99quot;، أما اليوم فنصفق لquot;فوزٍ كرديٍّquot; مماثل، quot;منتخَبٍquot; بمطلق الأصوات، أي مئة بالمئة!
هناك، نهرب من quot;ديمقراطيةquot; التسعات الأربعة، وهنا ندخل إلى quot;ديمقراطيةquot; التصفيق المطلق، مئة في المئة.
هناك، نهرب من حكم العائلة، وحزب العائلة، ومخابرات العائلة، ودولة العائلة، أما هنا فندخل quot;كردستان العائلةquot; تحت إمرة quot;حزب العائلةquot;، بمنتهى الرضى والتصفيق quot;الديمقراطييَنquot;.

ما جرى من quot;كلام ديمقراطي كثيرquot;، وإنتهى إلى التطبيق المؤكد عشائرياً، لم يكن مستغرباً، على المتابعين لمسيرة الحزب الديمقراطي الكردستاني quot;الديمقراطيةquot;، منذ تأسيسه، على يد البارزاني الراحل الأب مصطفى، في السادس عشر من آب 1946 حتى الآن.
كلّ ما جرى كان عادياً ومتوقعاً بالطبع.
فالبارزاني نيجيرفان صار قبل المؤتمر نائباً بقرار، وأعيد ترشيحه مجدداً باقتراح من الرئيس، تم التصويت عليه صورياً في أقل من دقيقة، ليفوز بكل أصوات المؤتمر، أو بquot;مطلق الأصواتquot;، حسب التوصيف الرسمي لإعلام الحزب.

ولكن اللاعادي واللامتوقع، هو جرأة البارزاني الفوق عادية، وتحديه لكل المؤتمرين، من بارتيين قدماء وجدد، بترشيحه لإبن أخيه وصهره نيجيرفان بارزاني، نائباً له، ما بعده نائب، ليعبّد الطريق الكردي أمام العائلة، من بعده، لملك كردستان، إلى أن يشاء الله، و تشاء quot;الديمقراطية العشائريةquot;.

غداً أو بعده، ستزدحم الصحف والمواقع والقنوات التلفزيونية الكردية، ببرقيات التهنئة الحارة، إلى رئيس الحزب ونائبه وسائر المؤتمرين، على quot;نجاحهم الديمقراطي الباهرquot;.
غداً أو بعده، ستزدحم مكاتب فوق الحزب الديمقراطي الكردستاني، بالمباركين والمهللين والمطبلين والمزمرين، لديمقراطية البارزاني العشائرية، التي لا قبلها ولا بعدها ديمقراطية.
غداً أو بعده، سنقرأ الكثير من النظريات الجديدة، عن الجديد الديمقراطي بارزانياً، أو دور quot;الديمقراطية العشائريةquot;، في تطوير quot;الديمقراطية ما بعد الحداثويةquot; في العالم.
غداً أو بعده بقليلٍ أو كثير، سيخرج علينا كتاب البلاط كعادتهم مجدداً، بquot;نظرياتquot; جديدة، عن quot;النيوـ بارزانيزمquot; أو ربما quot;البوست بارزانيزمquot;، بعد أن قتلوا quot;البارزانيزمquot; وما حولها من quot;علوم سياسيةquot;، بحثاً وحفراً ودرساً وتنظيراً.


[email protected]