أقام الإيرانيون quot;جمهوريتهم الإسلاميةquot; على أنقاض نظام ملكي مستبد حكم إيران بالحديد والنار فترة طويلة، وانتقلت من الإستعمار الإنجليزي إلى الأمريكي وأورث الإيرانيين الفقر والجهل والمرض مما خلق استياءاً عاماً لدى جميع الفئات، دفع السيد الخميني الى طرح البديل الذي يصبو إليه الايرانيون بجميع فئاتهم وكان البديل ليس شيئاً غير خلع النظام المرتبط بالغرب وقد تبلورت مطالب المعارضة فيما بعد إلى المطالبة بإقامة quot;نظام إسلاميquot; عادل يحل مكان السياسات الفاشلة واستطاع السيد الخميني ان يجمع تحت رايته جميع أطياف المجتمع الإيراني ولم يستثن في هذه المرحلة أحداً في خطوة ذكية ليدفع بالجميع إلى الشارع مطالبين بالتغيير معتقدين أن تفكيك هذا النظام يأتي في المقام الأول ثم يتفق المجتمع بأطيافه المختلفة في كيفية إعادة بنائه بمؤسساته السياسية والاقتصادية والفكرية.

ذلك الذي أوحت لهم اليافطة المرفوعة ( نظام إسلامي عادل) حيث أن العدالة مبتغى الجميع وأن النظام الإسلامي هو النظام الذي يحمل في ذاته فكرة العدالة وكلمة عادل بعد إسلامي لا يفيد إلا التأكيد على عدالة النظام، ولم يفهم أصحاب الإتجاهات غير الإسلامية في هذا السياق بل استقر فهمهم أن النظام الإسلامي المطلوب هو النظام الإسلامي القائم على قاعدة العدالة التي تستلزم بالضرورة الحكم الرشيد ومحاولة الإستفادة من التجارب البشرية في نظم الحكم الحديثة.

كان رأي السيد الخميني في بداية نجاح الثورة إبعاد رجال الدين عن السلطة ويقول في أحد خطبه quot; ليس بالضرورة أن يحكم رجل الدين لكي تكون الدولة إسلامية quot; ومصداقاً لذلك فقد عين أول رئيس جمهورية أبو الحسن بني صدر وكان الطاقم الذي استعان به هو مجموعة من رجال الخبرة السياسيين والإقتصاديين والإعلاميين من التكنوقراط، وهنا تخوف الإسلاميون الراديكليون من أبعادهم عن السلطة والثروة وخاضوا معركة كسر العظام مع الفريق الحاكم ( بني صدر، يزدي) وغيرهما وبدأت تجريد كلمة الجمهورية من معانيها وتضخيم كلمة الإسلامية وأخذ الإسلاميون يسنون حرابهم لممارسة أقصى درجات العنف الثوري.

ولافرق بين اتباع النظام السابق وبين المختلفين معهم في الرؤية الفكرية في إقامة الدولة، فمحكمة الثورة فتحت مكاتبها لتصدر أحكاماً مستعجلة خوفاً من الثورة المضادة وحينما وجه أحد القضاة بعدم صحة الحكم في بعض ممن أعدموا بناءاً على حكم المحكمة فعلق بقوله : quot; إذا حكمنا بالعدل فهذا هو المطلوب فلم نظلمه وإذا لم يكن الحكم عادلاً فإنه يذهب المعدوم إلى الجنة.quot;

للدخول في معركة الصراع على السلطة والثروة والإستئثار بهما كأي نظام يقوم على أنقاض نظام سابق، واستمر الصراع ولم يتوقف بالقضاء على رجال الحكم في النظام السابق بل انتقل الصراع إلى الحكام الجدد وتلاميذ الإمام، فأصبح الفريق فريقين، أحدهما يذهب براديكاليته الحد الأقصى ( النصيون السلفيون) وفئة أقل راديكالية وهم الإسلاميون الذين مزجوا بثقافتهم الدينية الحداثة وهي الفئة التي ترى الإستفادة من الحضارة القائمة ومنتجاتها الفكرية والسياسية والإقتصادية وغيرها، ونرى انعكاس ذلك على نصوص دستور الجمهورية الإسلامية والنقاش الذي صاحب وضع نصوص الدستور قبل إقراره، وحيث أن الجو العام كان يسيطر عليه كريزما ( الإمام الخميني) لم تجرؤ المعارضة التي تكونت في تلك الفترة البسيطة (منظمة خلق الأقليات العرفية، والمذهبية، والقوميين)، لم تجرؤ تلك الفئات على رفع لواء المعارضة ولكن كانت تتململ تحت الرماد وأعلنت بعضها عن نفسها فيما بعد.

إن الإسلام المتشدد إذا ماقدر أن يحكم فإن الفترة التي يستمر فيها في الحكم تكون مؤقته ومحاطة بالفشل من كل جانب بسبب عدم إعتراف النظام بالتخصص الدقيق للحياة وتسليم الدولة لأيدولوجيين لايحسنون إدارتها على أسس علمية دقيقة ( تقديم الولاء على الكفاءة) وهذه علة العلل في النظم الإدارية في عموم العالم الثالث.
من المعروف إن تدخل الدين بشكل فج في جميع أنشطة الحياة يعرقل مسيرتها وتطورها بل ودورانها ولا مانع من أن تكون مظلته الأخلاقية تضفي على الحياة الجمال والنبل والتهذيب السلوكي.

بالرغم من أن دستور الجمهورية الإسلامية مزيج بين الدين والحداثة إلا أن جميع السلطات وحركة المجتمع في يد رجل واحد ( ولي الفقية) يفترض أن يكون جامعاً لجميع صفات القيادة كما نص عليه الدستور لكن فعلياً يصعب قياسه بدقه ان كان يتمتع بذلك أم أنه ليس كذلك ولا يمكن لمجلس الخبراء أن يقيم ذلك، وأداة التقييم الفعلي هو الشعب في إستفتاء عام فإذا كانت الأغلبية قالت أن القائد مؤهل فيجدد له وإلا فعزله واجب.

إن عجز مجتمع النخبة الدينية والتي تمثل العمود الفقري للثورة وجميعهم يدينون لها ولقائدها هم اليوم أعجز عن التوفيق بين المبادئ الاسلامية ومتطلبات المجتمع العصري، ويعيش المجتمع الايراني في حالة تناقضات قوية لا يمكن التغلب عليها بسهولة، وكل الذي نلاحظه في المجالات السياسية والإقتصادية، وتحكم غير طبيعي في مفاصل السلطة والثروة خوفاً من نشوء نظام ديموقراطي حقيقي مع الزمن وإنجرار السوق نحو قانون العرض والطلب بالإضافة إلى تطلع الشباب نحو حياة أكثر حرية واكثر واقعية بعيداً عن التخيلات المثالية، كل ذلك يدفع الجيل الجديد إلى الردة والإنحياز نحو الحرية والحداثة كوسيلة وحيدة للخروج من المآزق المتراكمة بعد فشل quot;النظام الإسلاميquot; في خلق نظام عادل كما وعد به النظام في بداية انشائه.

وفي مواجهة هذه الردة ينشأ العنف المفرط من قبل السلطة تتقدمه مجموعة من المصطلحات يستحضرها النظام مغلفاً بالقداسة لنشأتها في ظروف تاريخية معينة ( كالمنافقين) للتعبير عن المعارضين خارج محيط الشرعية الدينية تمهيداً لإدانتهم إجتماعياً ليسهل الحكم عليهم بعد ذلك بأشد العقوبات من قبل المحاكم الثورية التي مازالت تعيش في محيط المفهوم الثوري.

ولما كان النظام لم يوفق في إيجاد حلول سلمية للنزاعات الداخلية حتى بين الأحزاب والتجمعات المستأنسة بطرق ديمواقراطية فإن البديل الحاضر دائماً في هذه الحالات هو تطبيق فكرة quot;العادل المستبدquot; وهو في المذهب الشيعي قد تمثل وتبلور في مصطلح ( ولي الفقية) ليبرر استعمال اقصى درجات العنف في مواجهة الردة المجتمعية لقمعهم وإعادتهم إلى جادة الصواب.

وحينما يستولي الراديكاليون الإسلاميون على الحكم فإنهم سرعان ما ينسون تلك الشعارات التي كانوا يرددونها قبل القبض على مفاصل السلطة وأنه من الصعوبة تحويل تلك الشعارات إلى مبادئ للحكم ومنهجية للتعامل مع الناس هذا ما شاهدناه في السودان وإيران وكلتا الدولتين تتميزان أنهما متعددي الأعراق والمذاهب، فإصرار السودانيين على رفض الحكم المدني واستحضار الشريعة الإسلامية ( بقراءة عباسية) للتطبيق القسري على السودان متعدد الأديان والأعراق من الطبيعي أن يؤدي في النهاية إلى إنفصال الجنوب الوثني عن الشمال الإسلامي، فهذا هو الثمن الباهظ الذي يدفعه السودانيون أخيراً، إنه تمزيق للوطن حقاً انه ثمن باهظ.
أما الحالة الإيرانية فهي دولة مذهبية بإمتياز كما نص عليه دستور الجمهورية الاسلامية في المادة (12) ونصها : quot; الدين الرسمي لإيران الإسلام والمذهب الجعفري الإثنى عشري وهذه المادة غير قابلة للتغير إلى الأبدquot; واتباع المذاهب الإسلامية الأخرى تتمتع بإحترام كامل...الخ.

الذي يهمنا في هذا النص أن للدولة دين وهذا مادرجت عليه الدساتير في الدول الإسلامية بشكل عام ونحن نعلم ان الدولة شخصية معنوية وليست شخصية حقيقية، والشخصية المعنوية لا يكون لها دين لأن الدين علاقة روحية خفية بين الخالق والمخلوق بين الحي الدائم والحي الذي يموت، وهذا الجانب من العلاقة بين الله والإنسان يمنح الجانب الأضعف وهو الانسان الإطمئنان النفسي والطاقة لشحن معنوياته التي تنعكس على كل عضو من اعضاء جسده الضعيف وتمنحه الحيوية من جديد ولا يمكن أن نتصور أن تنشأ هذه العلاقة بين الله والشخص المعنوي كالدولة مثلاً.

ولم يكتف النص الدستوري آنف الذكر بالإسلام ديناً للدولة بل ربطها بإحدى مدارس الفقه التي نشأت في العصر العباسي وبظروف ذلك العصر وصاحب ذلك إستحضار الصراع المذهبي وأقيم لهذا الغرض مؤسسات تتبع الدولة لحراسة الدين والمذهب بالإضافة إلى إطلاق أيدي رجال الدين بإعتبارهم حراس الفضيلة والدين، وأصبحت الدولة لا ترى من الخارج الا دولة دينية بحكمها quot;العادل المستبدquot; ( ولي الفقيه).

وهنا يبدأ مشوار المعاناة والإضطهاد للأقليات بكل أنواعها المذهبية والدينية والقومية والجهوية، بالرغم من أن النص الدستوري ينص على إحترام أتباع المذاهب الأخرى والأقليات، إلا أن الدولة الأيدولوجية دائماً وأبداً لا تستطيع الخروج من أيدولوجيتها حين التعامل مع شعبها وعادةً ماتعطل جل نصوص الدستور إذا اصطدمت مع قناعات النظام عندئذٍ تظهر سطوة العادل المستبد أو ( ولي الفقيه) وأتباعه من حراس الأيدولوجيات ليبرروا تصرفاتهم خارج محيط القانون، وهذا ما حصل بالضبط في الجمهورية الإسلامية، فنحن نسمع بين حين وآخر يخرج أحد الشيوخ المعتبرين ليفتي بأن رأي ولي الفقيه يحجب كل مؤسسات الدولة في حال التعارض والتصادم، فهو يلغي قرارات البرلمان المعبر عن إرادة الجماهير ويلغي أحكام القضاء ويعطل الحقوق والحريات العامة فكل المؤسسات الدستورية تصبح في مهب الريح هذا بحكم موقعه الدستوري فله مطلق الحرية فيما يتخذ من قرارات، بل بإمكانه تعطيل مصالح الأمة إذا لم ير مصلحة في ذلك، فهو الذ


في ظل هذا الوضع يحاصر الجمهورية الإسلامية كم هائل من المشكلات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية ناتجة عن القنوط وخيبات الأمل والبطالة وتفكك النسيج الإجتماعي بتشطيرالأيدولوجيا الرئيسية إلى أيدولوجيات متعددة، ويفسر ذلك انبثاق الإصلاحيين ( المنافقين) من ذات المحافظين وانقسام المجتمع بناءاً على ذلك بالإضافة إلى المعارضة الصامتة من الأقليات الدينية والمذهبية وغيرها يمنع ظهورها قساوة أجهزة الأمن وبطشها، وحين تتحين الفرصة المناسبة فإنه يتم الانقضاض على السلطة من جماعة أخرى لتبدأ الدورة من جديد على نفس المنوال.


في هذا الوضع المتأزم توجه كل إمكانيات الدولة المختلفة لبناء صروح أمنية متعددة لضمان حماية نفسها من مشاكل هي التي تسببت في خلقها بوضع قيود وضوابط إجتماعية على حركة الناس تدعي انها إلاهيه وهي في حقيقتها سلطانية، وبشرية مطلقة.

كما خلقت حالة من البلبلة في محيطها وتدمير العلاقات الحسنة بينها وبين العالم بشكل عام ودأب السيد الرئيس محمود أحمدي نجاد على مسح كل الخيارات الثقافية أمام الشعب الإيراني ليحشره في خيار وحيد ضيق يحكمه بكل قسوة القدرية السياسية المتمثلة في quot;تحالف الدين والعسكرquot;.

إن التقدم العسكري والأمني في أية دولة يعد وبالاً على شعب تلك الدولة ما لم يتقدم على ذلك الإصلاح السياسي، فالسياسة هي الحصان الذي يقود العربة فإذا لم يكن الحصان مسيساً بما يكفي فإن العربة معرضة للتدمير، إن من يراقب الوضع الإيراني في الداخل والخارج يشهد بوضوح أن الوضع السياسي في إيران ينتمي إلى عصر كان التشيّع فيه أبرز معارضيه بل أن الشيعة يستمدون شرعيتهم من رفضهم للأوضاع القائمة تاريخياً فإذا بهم يقعون فيما كانوا ينهون عنه ولايستطيعون تحمل حتى بني جلدتهم وعقيدتهم.
إن التنظيم السياسي الذي يخلو من معارضه حقيقية غير قابل للإستمرار وتجربة مؤتمر الإنقاذ في السودان ماثلة أمامنا بوضوح وما الإصلاح إلا نتاج فكرة التضاد ( إذ بضدها تتميز الأشياء) والجو التنافسي الشريف مطلوب في كل أمر إذ بدونه يصبح الأمر كما لو كان صرخة في واد لايتوقع المرء ردة فعل لها.

صحيح أن غطرسة الرأسمالية الغربية وقساوتها جرت العالم الى نكبات كثيرة على قاعدة ( توازن الرعب) مما دفعت كثيراً من الدول إلى التفكير في كيفية حماية نفسها ونظامها السياسي من التغول الغربي، إلا أن هذا الشعور وهذا الأحساس يجب ألا يدفع النظام السياسي إلى الإستئساد والتغول على الداخل بحجة مقاومة الخارج، ويضيق ذرعاً بالمشاركة السياسية والمخالفين في الرأي لأن الجميع يمتطون مركباً واحداً بغرقه يغرق الوطن بما فيه وتلك أنانية قاتلة.

وأخيراً أقول أن المعركة التي يجب أن تخوضها إيران هي المعركة الأخلاقية والعلمية وهي المعركة الوحيدة التي لايستطيع أحد معارضتها ومشاكستها في هذا العالم، ولا سيما أن المجتمع الدولي يقدر الشعب الإيراني الذي ارتبط تاريخه في كل العصور بإنتاجه الفكري والأخلاقي.
quot;فإذا اردت ان تصبح كوكباً فعليك ان ترسل أنوارك حتى الى الراشقينquot;، هذا ماقاله الفيلسوف الألماني نيتشة على لسان زرادشت.

أحمد عبدالرحيم الأنصاري

عضو quot; ثقافة احترام القانون quot;