فجأة ودون سابق انذار او اعلام تنكرت العديد من وسائل الاعلام العربية لواحدة من اهم الحقوق البشرية والمبادئ الانسانية التي تضمنتها كل العهود والمواثيق والمعاهدات الاممية الوضعية منها والدينية، بل هي واحدة من ملزمات اعتراف واحترام أي كيان يستقل او يتم تأسيسه منذ بدأت شعوب الارض بتأسيس كياناتها المستقلة واصبحت دولا وممالك، فقد احدثت الفقرة التي تناولت حق تقرير المصير في خطاب رئيس اقليم كردستان العراق اثناء افتتاحه لأعمال المؤتمر 13 للحزب الديمقراطي الكردستاني ضجة اعلامية كبيرة شابتها تخوفات وتحذيرات من تقسيم البلاد وتجزئة العراق بادعاء ان المطالبة بحق تقرير المصير سيؤدي الى انفصال اقليم كردستان(!) رغم ان هذا الحق والمبدأ أي تقرير المصير يعتبر من اهم فقرات دساتير العالم واعرافه ومبادئ الانسانية المتحضرة.

وحق تقرير المصير (right of self-determination ) كما جاء في كثير من المصادر والمراجع*:

هو مصطلح يستخدم في مجال العلوم السياسية والدولية التي تشير الى حق كل مجتمع ذي هوية جماعية متميزة، مثل شعب أو مجموعة عرقية وغيرهما، بتحديد طموحاته السياسية وتبني النطاق السياسي المفضل لديه من أجل تحقيق هذه الطموحات وإدارة حياة المجتمع اليومية، وهذا دون تدخل خارجي أو قهر من قبل شعوب أو منظمات أجنبية.

ويأتي استخدام هذا المصطلح لأول مرة من قبل الرئيس الامريكي وودرو ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى، مع أن بعض الأدباء والعلماء استخدموا مصطلحات مماثلة من قبل، حيث اصبح هذا المبدأ في حق تقرير المصير من أسس معاهدة فيرساي* التي وقعت عليها الدول المتقاتلة في الحرب العالمية الأولى، والتي دعت الى تأسيس دول لشعوب أوروبا بعد انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية والقيصرية الألمانية، وكذلك في فترة لاحقة من القرن الماضي حيث استخدم هذا المبدأ كأساس في سياسة إزالة الاستعمار التي سعت إلى تأسيس دول مستقلة في إفريقيا وآسيا بدلا من المستعمرات الأوروبية.

بعد الحرب العالمية الأولى شاعت فكرة أن المجتمع الذي يحق له تقرير المصير هو مجموعة الناس الذين تجمعهم لغة واحدة وذوي ثقافة مشتركة ويعيشون على ارض معينة ذات حدود واضحة، واصبح هذا المبدأ أو الحق يمارس تطبيقيا عن طريق إقامة دول أمة أو مناطق للحكم الذاتي، وعلى هذا الاساس فأن أي مجموعة بشرية ذات لغة وثقافة مشتركتين يمكن اعتبارها قوما أو شعبا ويمكن إعلان المنطقة دولة مستقلة أو اقليما ذات حكم ذاتي في إطار دولة فيدرالية.

وقد تبين ان هذه الأفكار قد تؤدي الى قيام عشرات الدويلات ذات الحدود الطويلة والمعيقة للتبادل التجاري وحرية العبور والسفر حيث بلغت المطالبات مبلغا جعل القادة الاوربيون يميلون الى تأسيس فيدراليات تضم عدة شعوب تتمتع باستقلال ذاتي كما في تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، ولكن هذه الشعوب التي شاركت في كل من هذه الأنظمة الفديرالية لم تتمكن من الحفاظ على جهاز السلطة المشتركة لمدة طويلة، فانفصلت اقاليم هذه الفديراليات إلى دول مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أي عند إزالة الضغوطات الخارجية.

لقد اعتمد هذا المبدأ كواحد من اهم مبادئ عصبة الامم وما بعدها في منظمة الامم المتحدة وما اعقب ذلك من تأسيس دول ومنظمات واقاليم اعتمدت هذا الحق او المبدأ الاساسي كفقرة من اهم فقرات دساتيرها وقوانين تأسيسها، وفي مقدمة تلك الشعوب والحركات كانت الحركة التحررية الكردية في كردستان العراق التي قاد مشروعها النهضوي الزعيم الكردي الكبير مصطفى البارزاني منذ منتصف اربعينات القرن الماضي وجعل من مبدأ وحق تقرير المصير واحد من اهم المبادئ التي تناضل من اجلها الحركة، فاعتمدت ضمن هذا المفهوم مطلب الحكم الذاتي ضمن عراق ديمقراطي وناضلت سنوات طويلة من اجل هذا الحق حتى اذعنت حكومة بغداد في حينها لتوقيع اتفاقية اذار التي اعترفت بحق الكرد في اقامة حكمهم الذاتي في المناطق التي يشكلون فيها اغلبية السكان، الا ان ذلك لم يتحقق تماما بسبب تخلي الطرف المركزي عن التزاماته والالتفاف على الحركة في مخاتلات ومؤامرات ادت الى فشل ذلك المشروع وعودة العمليات القتالية الى المنطقة حتى قيام انتفاضة الربيع في 1991م التي انتصر فيها الثوار واسسوا ملاذهم الامن تحت حماية دولية بعد صدور قرار مجلس الامن المرقم 688 في 5 نيسان/ابريل 1991م.

وخلال سنة واحدة من صدور القرار الاممي نجحت القوى والاحزاب الكردستانية في ترتيب اوضاعها السياسية والادارية والتشريعية في مؤسسات قانونية وتنفيذية من خلال اجراء انتخابات عامة انبثق عنها وعلى ضوء نتائجها اول برلمان كردستاني وحكومة محلية يمنحها البرلمان كامل الثقة لقيادة المرحلة الجديدة في تاريخ المنطقة، حيث تم اقرار الفيدرالية كتطبيق من تطبيقات حق تقرير المصير في 1992م، وفي ذات السنة طرح الموضوع في مؤتمر فصائل المعارضة العراقية الذي عقد في العاصمة النمساوية فينا عام 1992 والذي ايد ووافق على قرار الشعب الكوردي القاضي بتقرير مصيره ضمن حدود العراق.

لقد كان وما يزال هذا المبدأ او الحق واحد من اهم اهداف ومبادئ الامم المتحدة ومواثيقها وعهودها وهو في ذات الوقت من مرتكزات كل الاحزاب الكردستانية عبر تاريخها وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي اعتمده في كافة مؤتمراته منذ تأسيسه في اب 1946م وحتى مؤتمره الاخير الثالث عشر الذي انعقد في اربيل ( 11كانون اول 2010م ) حيث اعلن رئيسه مسعود بارزاني في خطاب الافتتاح إن:

( المؤتمرات السابقة للحزب تؤكد ان الشعب الكردي يملك حق تقرير المصير. اليوم يرى الحزب ان المطالبة بحق تقرير المصير والكفاح العاصي والسلمي لبلوغ الهدف تنسجم مع المرحلة المقبلة ).

لقد كفل الدستور العراقي الدائم حق شعب كردستان في الفيدرالية واعترف بقيام سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية القائمة منذ انبثاق البرلمان الكردستاني في عام 1992م، وشرع مادة خاصة لحل القضايا المختلف عليها في المناطق التي تعرضت لتغييرات ديموغرافية حادة ايام النظام السابق في الموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين بما يعزز الحقوق الاساسية للمواطن وخياراته والتي عرفت بالمادة 140 التي وضعت خارطة طريق لحل كل النزاعات في تلك المناطق.

ان حق تقرير المصير لم يعد مبداً مهما من مبادئ الامم المتحدة ومواثيقها وعهودها بل اصبح اليوم سلاحا بيد الشعوب من اجل تحقيق اهدافها، وفي تجربتنا هنا في العراق سيكون سلاحا مهما للحفاظ على الفيدرالية في كردستان العراق، لذلك فان المطالبة به تكفله كل المواثيق والعهود الدولية، وتقره كل الحركات السياسية والاجتماعية وتعتمده كواحد من اهدافها او شعاراتها، وهو بالتالي تحصيل حاصل لنضال كل الشعوب والمجتمعات والافراد ومنها شعب كردستان العراق وهذا لا يتناقض مع مبادئ الدستور العراقي وتطبيقاته ولا مع النهج الديمقراطي للدولة وشكلها الفيدرالي الذي يضمن تمتع شعب كردستان بحقوقه الاساسية سياسيا وقانونيا واجتماعيا وثقافيا بما يعزز حرية الفرد والمجتمع ويصون وحدة الاقاليم العراقية اختياريا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

bull;ويكيبيديا: الموسوعة الحرة
bull;معاهدة فرساي: معاهدة بين الالمان والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الاولى في 28/يونيو/1919م.