لست أبالغ حين أقول بأنه لا يوجد بين بني أدم من يقدر على لي ذراع الحقيقة مثلما يقدر المتطرفون الإسلاميون. فهم مجني عليهم حين يعتدون وهم ضحايا حين يقتلون وهم شهداء حين يروعون ويفجرون، بينما مخالفوهم في الرأي والعقيدة جناة حين يُعتدى عليهم وظالمون حين يُقتلون ومجرمون حين يُستهدفون. هل هم مرضى عقليون؟ هل هم أناس بلا ضمير؟ هل هم كاذبون؟ هم كل ذلك ويضاف أيضاً أنهم مصابون بداء اختياري غير عضوي وهو داء عمى البصيرة الذي يجردهم من كل حواسهم الإنسانية. هم أناس لهم أعين تؤدي وظائفها العضوية في رؤية الأشياء ولكنهم أيضاً أناس لا يبصرون الحق والحقيقة.
تحول أمر بناء كنيسة العمرانية إلى سبوبة للهجوم على الأقباط والكنيسة القبطية. لم يخجل المتطرفون سواء في حي العمرانية أو محافظة الجيزة أو في أجهزة الأمن أو في وسائل الإعلام من أنفسهم حين دافعوا عن توجه مئات من قوات الأمن المركزي للهجوم على الشباب الذي أخذ على عاتقه بناء دور عبادتهم في فجر أحد الأيام في عملية دموية شرسة أسفرت عن ضحيتين من الأقباط وإصابة العشرات وذهاب عدد كبير أخر منهم في غياهب السجون المصرية القاسية التي لا ترحم.
فضح المسئولون المصريون المتطرفون أنفسهم حين هاجموا الكنيسة كما يهاجمون أوكار اللصوص في الوقت الذي لم يحركوا فيه ساكناً حين قام بعض المسلمين فجأة ببناء مسجد يبعد أمتار قليلة عن الكنيسة التي كان يشرعون في أنشائها. لم يكد يمر سوى أسبوعين فقط على جريمة مسئولي محافظة الجيزة بحق أقباط العمرانية حتى كان المسلمون يؤدون الصلاة في مسجدهم الجديد الذي لم يكتمل بناؤه بعد على مرآى من مسئولي محافظة الجيزة قوات الامن. هل حصل المسلمون على ترخيص ببناء المسجد؟ هل مر المسلمون عند بنائهم للمسجد بكل التعقيدات التي مر بها المسيحيون عند بنائهم للكنيسة؟. لماذا لم تحاصر قوات الأمن المسجد وتهاجم المصلين المسلمين بالذخيرة الحية كما فعلت مع المسيحيين طالما كانت quot;الجريمةquot; واحدة؟ لماذا التعامل بازدواجية؟
العجيب أن أبواق المتطرفين التي لا تصمت لا تزال تصرخ بأعلى أصواتها لتدين الأقباط بعدم الالتزام وبفهم المواطنة على أنها عدم التقيد باللوائح والضرب بالقوانين عرض الحائط واتخاذ قرارات دون الرجوع إلى أي سلطة. أية قوانين ولوائح يتحدثون عنها؟
استغلت أبواق التطرف رد الفعل القبطي العفوي على الهجوم الأمني الكاسح الذي استخدم الذخيرة الحية والطلقات المطاطية والقنابل الدخانية في شحن المسئولين وقوات الأمن ضد الأقباط. تحدثت أبواق التطرف من جديد عن موضوع قديم خائب مفاده وجود أسلحة بالأديرة والكنائس. وللحق فأنا لا يدهشني أن يتصور المتطرفون دائماً أن كل الأطراف، حتى المسالمة منها، تتصرف مثلهم في أمور كتخزين السلاح والتدريب على القتال. هذه أمور سيكولوجية معروفة، فاللص يتصور أن كل من حوله لصوص، والإنسان غير الأمين يشك باستمرار في سلوك المحيطين به.
كان نصيب البابا شنوده من هجوم المتطرفين كبيراً، واستمرت الأبواق المريضة في ترديد ادعاءات بمسئولية البابا عن الحالة المتردية التي صارت عليها الأمور الطائفية في مصر ناسبة إليه أحاديث لم يتفوه بها. ألم أقل في بداية المقال أن المتطرفين عميان البصيرة لهم أعين ولكنهم لا يبصرون الحق والحقيقة. فإذا كان البابا شنوده هو من أشعل نيران التطرف في مصر، فهل البابا شنوده هو المسئول عن التطرف الإسلامي الذي تكتوي بنيرانه كل بقاع الدنيا من مشرقها إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها؟ لن أتحدث عن هجمات 11 سبتمبر في نيويورك و11 مارس في مدريد 7 يوليو في لندن لأن المتطرفين يظنون أنها أعمال تلفقها المخابرات الغربية للمسلمين. ولكن هل البابا شنوده هو المسئول عن الهجمات الإرهابية التي يشنها السنة باسم الإسلام ورسوله ضد الشيعة في العراق؟ وهل البابا شنوده هو المسئول عن المئات من الأرواح التي تزهق باسم الإسلام ورسوله في مساجد باكستان بصفة مستمرة؟ وهل البابا شنوده هو المسئول عن المجازر التي ترتكبها حركة الشباب باسم الإسلام ورسوله ضد المسلمين الصومال؟
لم يكن ما نشرته جريدة مصرية قومية كبرى من سطور تحريضية لأحد الأصوات المتطرفة يهاجم فيها الكنيسة القبطية والبابا شنوده عملاً عشوائياًً، ولكنه كان عملاً مستهدفاً لأن أقوال البابا المدافعة عن حقوق الأقباط لم ترق للدولة وأنظمتها. كان نفي البابا شنوده اعتذار أسقف الجيزة عن رد فعل أقباط العمرانية خنجراً في صدر الإعلام المصري الرسمي وغير الرسمي الذي أراد تصوير شباب الأقباط على أنهم مجرمين وعلى أن الكنيسة تتبرأ منهم وتتخلى عنهم. ولذا كان المقال المسموم الذي تبنى وجهة نظر المتطرفين الإسلاميين والذي أريد منه لي ذراع البابا. ولكن البابا شنوده لم يهتز أمام إعلام يعرف هو شخصياً داءه جيداً، ورد بشجاعة وروعة يحسد عليهما حين أكد على أن دماء الأقباط ليست رخيصة مطالباً بحق الدماء القبطية التي أسيلت من جراء عدوان قوات الأمن على أقباط العمرانية.
هل نعتب على الإعلام المصري الرسمي خطاياه ضد الأقباط والبابا شنوده؟ بالطبع لا لأن الإعلام المصري الرسمي الذي لا مصداقية ولا مباديء له ينفذ فقط ما يملى عليه. يصفق الإعلام الرسمي المصري كثيراً للبابا شنوده حين اتخذ مواقف مؤيدة للدولة وللتيارين القومي والإسلامي مثل مقاطعة إسرائيل ورفض سفر المسيحيين إلى القدس. ولكن الإعلام نفسه وضع البابا في موقف المتهم بإشعال الفتنة الطائفية عندما بدأ البابا في إعلان مواقفه المؤيدة لحقوق شعبه القبطي.
القضية التي نواجهها ليست بناء كنيسة في العمرانية وليست قلة قبطية ردت على جحافل قوات الأمن ببعض الحجارة وليست مواقف البابا شنوده المؤيدة لحقوق رعيته، ولكنها عقيدة التطرف التي يؤمن بها الكثيرون التي تدفعهم لكراهية من لا يتفق معهم بصفة عامة والمسيحيين بصفة خاصة. لم تعد عقيدة التطرف قاصرة على عدد من الشباب المسلم ممن يطلقون لحاهم ويسمون جباههم بعلامات الصلاة ويرتدون الملابس الأفغانية، ولكنها امتدت لتشمل الكثيرين من المسلمين بمن فيهم بعض شاغلي المناصب العليا في مؤسسات وأجهزة الدولة المصرية المختلفة. إنها عقيدة التطرف التي تدفع أجهزة الدولة للتعامل بمعيارين مع مسألة بناء دور عبادة المسيحيين ودور عبادة المسلمين، وهي عقيدة التطرف التي تدفع وسائل الإعلام لقلب الحقائق، وهي عقيدة التطرف التي تدفع المسلمين لرفض منح المسيحيين حقوقهم غير منقوصة. إنها عقيدة التطرف التي تصيب المؤمنين بها بداء عمى البصيرة. لهم أعين ولكنهم لا يبصرون.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات