بداية ما المقصود بالعسكرة؟ العسكرة التي اعنيها في هذا المورد، هي التعاطي مع نهضة الحسين عليه السلام من خلال مفردات تؤكد الجانب المأساوي (التراجيدي) الصارخ بكل تداعياته العاطفية كمحصلة لمعركة كتبت فصولها السيوف والرماح، وانجلت غبرتها عن استشهاد الإمام الحسين(ع) وثلة من اصحابه وأهل بيته. وهذا لا يعني تجاهل الجانب العاطفي والمأساوي من هذه الملحمة البطولية، ولكن الوقوف عند العاطفة والإرتهان للصدى العسكري لها، هو موضع النقاش.

كان الإمام الحسين قد رفع الشعار الفاصل والدقيق، الذي بموجبه بدأ تحركه : (ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي رسول الله كي آمر بالمعروف وانهى عن المنكر). إذن كيف صودر هذا الهدف الكبير وتحول الى معركة عسكرية ؟ لقد عملت السلطة الاموية حينها على تحويل مجرى النهضة الإصلاحية الحسينية ذات الأبعاد الإنسانية العظيمة، الى معركة عسكرية غير متكافئة ميدانياً، لأن السلطة توجست خيفة من معركة (اصلاحية ) ذات بعد إجتماعي وإنساني تكون فيها ( أي السلطة) الطرف الأضعف بل الطرف الخاسر بكل المقاييس، فهم لا يمتلكون الثقل الرسالي الذي يمتلكه الإمام الحسين عليه السلام، و لا منزلته من جده رسول الله(ص).
الملفت للنظر ان بعض اتباع ومريدي الحسين(ع)، اتبعوا نفس النهج (السلطوي انذاك) بتكريس ظاهرة (عسكرة النهضة الحسينية) بدلا من إحياء وتتبع الخط الإصلاحي الذي هو خط الحسين في نهضته. فلو نظرنا بتمعن وبشئ من التحليل لاتضحت لنا بعض الأسباب التي تكمن وراء الإصرار على الإستمرار في عسكرة هذه النهضة العظيمة. من هذه الاسباب والعوامل:

-عسكرة الأحداث والنهضات والثورات تعتبر الميدان المثالي للعواطف الجياشة والتصرفات الانفعالية، وهذا بدوره يشبع عند البعض حب الظهور او يتجاوب مع ذهنيته الانفعالية ويعفيه من ممارسة الدور العملي الإيجابي على أرض الواقع بما ينسجم مع اهداف النهضة او الثورة او التحرك، لأن العواطف والإنفعالات لا تكلف صاحبها كما يكلفه العمل في الميدان الاجتماعي الذي يحتاج بدوره الى مشقة وتضحية.

-العسكرة تساهم في تأكيد وترسيخ ( الاستقطاب الديني والمذهبي) الذي يسعى له البعض لغاية مريضة في نفوسهم او من الساعين لتدمير المجتمعات بالتعبئة ضد الآخر، مهما كان هذا الآخر، حيث يتم شق المجتمع الى جبهتين كما هو الحال في ساحة اية معركة، وسحب الاحقاد والعداوات القديمة بين معسكري المعركة الى واقع اجتماعي لا علاقة له بما حصل، و تفصله عنها احقاب زمنية بعيدة.

-الانتماء والانضمام الى اية نهضة من خلال مدخلها العسكري، امر يستهوي البعض لأنه لا يتطلب اكثر من مهارات جسدية وعاطفية تتمظهر من خلالها البطولات التي ربما يكون المجتمع في غنى عنها، ولذلك ترى كثافة وكثرة المساهمين والمنضمين لهذه الاجواء، ولكن الكثير منهم يفشل في العمل الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني الذي هو الاصل في الحركات والنهضات الاصلاحية ذات البعد الانساني والاجتماعي كنهضة الحسين (ع).

-العسكرة اقرب الى (المعيار الكمي) منه الى (المعيار النوعي)، وبالتالي يتم التفاعل مع النهضة باشكال تتصف بالمبالغة والغلو وعدم الدقة، ما دام ذلك يخدم الجانب الكمي والسطحي، وهذا ما يفضله العقل الجمعي الغريزي البسيط الذي لا يريد التصرف ضمن ضوابط موضوعية وعقلانية، لانها تكبح جماح السلوك الكمي المغالي والمنفلت احيانا.
-في اجواء العسكرة والهيجان الإنفعالي الجمعي يسهل تمرير بعض السلوكيات والمفاهيم الخاطئة تحت ستار المقدس. وبحجة ان هذه الافكار والممارسات هي من الشعائر المقدسة والتي لا يجوز المساس بها، رغم انها أحيانا واضحة في مخالفتها لتعاليم الشريعة والعقل والذوق السليم.

-معظم الثورات والنهضات والحركات الرائدة تعاني من نشوء طبقة من النفعيين الذين يعتاشون على هامشها ويلعبون بمقدراتها ويحرفون الكثير من اهدافها النبيلة بغية الانتفاع والعيش عليها. ومما يساعد على تواجد هذه الطبقة الانتهازية ونموها، هو الجو المشحون بهوس العسكرة الصاخبة والشعارات المجانية التي لا يترتب عليها اي فعل ايجابي بناء ينسجم مع النهضة الرائدة. وهؤلاء النفعيون لا يستطيعون العيش ضمن اجواء جادة عملية وعقلانية لأنهم يسقطون باول اختبار حقيقي يكشف عن نفعيتهم وانتهازيتهم. ( الدين لَعقٌ على السنتهم، يحيطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلَّ الدّيانون) هذا ما شخّصه الإمام سيد الشهداء الحسين(ع).