الكتابة عن الكرد، وبالأخص عن الواقع السياسي الذي استجد منذ غزو الكويت عام 1990 وإلى اليوم، أمر لا يخلو من حساسية وصعوبة.
والسبب أن المداخيل المالية المستحدثة لكردستان حولت المواطن الكردي إلى واحد من المرفهين، بل المُثرين، قياسا بالعراقي الآخر، وقياسا بمواطني دول مجاورة تعيش في ضنك وقلة مال.

ولأن خصوم القيادت الكردية من عرب العراق كثيرون، ولأنهم عودونا على سهولة رش التهم و الشتائم على من يختلف معهم، حتى من أقرب الأقربين إليهم، حعل عددا من الكتاب المنصفين الموضوعيين المحايدين يتهيبون الدخول في هذا المعترك، خوفا من تهم الرشوة والعمالة، بل سكت كثيرون منهم عن قول ما يجب أن يقال في هذا الخصوص.
فلدى عرب العراق، ولدى كثيرين من عرب الدول المجاورة، مواقف مسبقة ثابتة من كل ما هو كردي، أبيض كان أو أسود، دون تمييز.

ويصعب على عديدين من قرائنا العرب قبول القول بأن قادة الكرد العراقيين أثبتوا، بالدليل الملموس، بل الأدلة المتعاقبة، أنهم أكثر إخلاصا لجماهيرهم من زعمائنا العرب، وأكثر جرأة وصراحة وشجاعة في التعبير عن الطموح القومي لشعبهم، والتمسك به والعمل المتواصل على تحقيق ما يمكن تحقيقه منه وإن طال الزمن.

مناسبة هذا الكلام مبالغات الإعلام العربي في رفض حديث السيد البرزاني عن تقرير المصير، وشجبُه وشتم صاحبه، في بعض المواقع.
فلم تتناول سوى قلة من الكتاب حديث السيد مسعود البرزاني بعقلانية وعلمية وواقعية، بعيدا عن السطحية والعنجهية القومية العربية التي لم تجلب لنا غير الخراب والفساد والتخلف عبر تاريخنا الطويل.

إن ما يحدث في شمال العراق هو، عملا وقولا وواقعا، تقريرُ مصير كاملٌ ونهائي ٌلملايين الكرد العراقيين، من أهم معطياته دولة ٌكردية قائمة، بوزاراتها ومؤسساتها وعلاقاتها المحلية والإقليمية والدولية، لا ينقصها غير إعلانها واعتراف الدول بوجودها وحدودها وسيادتها.

والمواطن الكردي العادي والمسيس معا يعيش واقع الدولة المستقلة، ويستمتع به إلى أبعد الحدود، تماما كما يفعل مواطن أي دولة أخرى.
زرت كردستان مؤخرا، وأقمت أياما في ضيافة رئيس الوزراء الدكتور برهم صالح، فرافقته في جميع جولاته اليومية ونشاطاته، حتى داخل أسرته ذاتها.

لم أسمع أحدا يناديه بصيغة سعادة أو سيادة أو دولة أو فخامة الرئيس. كان الجميع، مواطنين عاديين وموظفين حكوميين، من كل المستويات والدرجات ينادونه بـ (كاكا)، وتعني (أخي) باللغة الكردية.

رأيته يعانق مواطنين في الشارع، ويحتضن آخرين من حزبه ومن الحزب المنافس بنفس الحرارة والعفوية والدفء والحنان. نعم هو كردي. ونعم هو متشدد في حسه القومي. ونعم هو سعيد بذلك ولا يخفيه. ونعم هو وغيره من القادة الكرد يسعون إلى جعل كردستان العراق بروسيا الأمة الكردية التي تضع كل ما في وسعها لتوحيدها في دولة كبرى واحدة تأخذ مكانها على خارطة المنطقة، إلى جانب إيران وتركيا وسوريا والعراق. فهل هذا عيب أو نقيصة تستحق كل هذه الشتائم من كتاب وسياسيين عرب يقطرون قومية وعروبة، وكانوا وما زالوا وسيظلون يحلمون بأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟

ما أردت قوله هنا هو أن القادة الكرد، جميعا، ودون استثناء، يعملون بكل ما وسعهم العمل من أجل تحقيق الحلم القومي البعيد.
ولكنهم، جميعا، ودون استثناء أيضا، يتمسكون ببقائهم ضمن الدولة العراقية، على كل سوءاتها وهزالها وتشرذم قادتها، لا حبا بالعرب العراقيين، ولا وفاءا منهم لتاريخ طويل من الشراكة والعيش المشترك، بل لأن هذه العلاقة هي أفضل الممكن في الوقت الراهن، على الأقل.

تجولت كثيرا في أسواق وحواري ومقاهي ومؤسسات أربيل والسليمانية، وحاورت مواطنين عاديين ومثقفين وسياسيين، فوجدتهم جميعا مؤمنين بهذه العلاقة وحريصين على استمرارها، بل يعتبرون تمسك قادتهم بها وبمعطياتها أقصى درجات الحنكة السياسية والدهاء.

(إن ما في يدك هو في يدك، ولكن لماذا لا تحاول أن تكسب المزيد؟) هذه هي الفسلفة التي يتمسك بها أكراد العراق. تجدها في المنزل والمتجر والمسجد والمقهى على حد سواء. يفاجؤك الجميع قائلين، نحن كرد ومستقلون، ولكننا عراقيون بالاختيار، وليس بالفرض والقهر والضغينة.

في إحدى محاوراتي مع كاكا برهم قال إن أكثر مخاوفنا على وحدة الدولة العراقية من عرب العراق. لكنه لم يقل ما إذا كانت هذه المخاوف من شيعته أم سنته.

وأكرر هنا القول إن الكرد باقون ضمن دولة العراق، إلى ما شاء الله. أما تقرير المصير الذي تحدث عنه السيد مسعود البرزاني فهو كلام عام مرسل إلى خارج العراق، له فيه مآرب أخرى لا تمس وضع دولته المستقلة داخل دولة العراق.